الخميس، 15 مايو 2025

07:24 م

محمد مطش يكتب.. الأدب فضلوه عن العلم

الأربعاء، 14 مايو 2025 12:55 م

محمد مطش

الكاتب محمد مطش

الكاتب محمد مطش

لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض أو يستمر دون وجود منظومة قيمية وأخلاقية متينة تشكل قاعدة سلوك أفراده وتوجهاتهم؛ فالقيم والأخلاق ليست مجرد شعارات أو مفاهيم نظرية، بل هي جوهر الإنسان وسر تميزه، وهي ما يكسب المعرفة معناها، ويمنح العلم هدفًا نبيلًا.

لذلك، لا عجب أن تكون الأخلاق مقدمة على العلم في كثير من الثقافات والأديان، فقد قال رسول الله ﷺ: “إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق”، فهي – أي الأخلاق – تُعد حجر الأساس لتنشئة إنسان ومجتمع متكامل.
وتُعرَف القيم بأنها المبادئ الثابتة التي توجه السلوك البشري، وتحدد ما هو مرغوب وما هو مرفوض، أما الأخلاق، فهي التطبيق العملي لتلك القيم في الحياة اليومية، كالأمانة، والصدق، والتواضع، واحترام الآخر.

ويمكن القول إن القيم هي البوصلة، والأخلاق هي الخطوات الفعلية التي يسلكها الإنسان بناءً على تلك البوصلة؛ لذلك، فإن القيم والمبادئ لا بد أن توضع في سياق محدد وتُتبع بشكل متحضّر وراقٍ.
ونجد أن في مسيرة الإنسان التعليمية، يُسلَّط الضوء عادة على التحصيل العلمي واكتساب المهارات التقنية، مثل تعلم لغة جديدة، أو علوم تطبيقية وإنسانية، أو استخدام التكنولوجيا الرقمية الحديثة، لكن من المؤسف أن تُهمَل القيم والمبادئ في هذه الرحلة؛ فالعلم دون أخلاق قد يتحول إلى أداة للتدمير بدلًا من البناء، كما في حال العلماء الذين سخّروا علومهم لصناعة أسلحة الدمار الشامل، أو العباقرة الذين استغلوا مهاراتهم في خداع الناس واستغلالهم. ولكن الأخلاق هي ما يضبط سلوك الإنسان عند توفر المعرفة، وهي الضمانة التي تحميه من الانحراف أو استخدام العلم لأغراض مفسدة تؤدي إلى الهلاك والخراب.

لذا، فإن ترسيخ القيم العليا في النفوس منذ مراحل الطفولة الأولى يشكل استثمارًا طويل الأمد؛ فالشخص المتربي والناشئ على الصدق لن يكذب مهما واجه من ضغوط، ومن تعلم العدل لن يظلم أحدًا حتى إن امتلك سلطة، ومن تربى على الرحمة لن يتحول إلى وحش مهما علا شأنه، ومن نشأ على الأمانة لن يسرق أبدًا أو يستبيح حقوق الغير لمصلحته. فالتربية الأخلاقية المبكرة تُنتج مواطنًا صالحًا، وعاملًا أمينًا، وقائدًا مسؤولًا، وهو ما ينعكس إيجابًا على كل مفاصل المجتمع.

ولا شيء يرسّخ القيم في نفوس الأبناء أكثر من رؤية تلك القيم متجسدة في سلوك من حولهم؛ فالطفل يتأثر بأفعالك أكثر مما يتأثر بأقوالك. لذا، فإن دور القدوة الصالحة – سواء أكانت في البيت، أو المدرسة، أو الشارع، أو من خلال وسائل الإعلام – هو حجر الأساس في التربية الأخلاقية. ونجد أن المعلم الذي يلتزم بالأمانة، والوالد الذي يفي بوعده، والمدرب الذي يحترم اللاعبين، والواعظ في دور العبادة، والفنان، والسياسي، وأصحاب العقول المستنيرة، كلهم قدوات تنغرس صورتهم في عقول الأجيال، وتُشكّل وجدانهم وسلوكهم؛ فالقدوة هي الحافز المشجّع لخلق جيل واعد وقادر على العطاء والاستمرار، نتاجًا لما تربّى عليه وتلمّسه ممن حوله.

وعلى الجانب الآخر، فإن غياب الأخلاق عن المجتمع يُؤذِن بكارثة على كل المستويات؛ حين تغيب القيم، تنتشر الفوضى، ويستشري الفساد، وتضعف الثقة بين الناس، وتتفكك الأسر، وتضيع المؤسسات. أما على الصعيد الاقتصادي، فغياب الأمانة يؤدي إلى الغش والاحتيال، وعلى المستوى السياسي، يولّد الطمع والأنانية استبدادًا وظلمًا، وعلى المستوى الرياضي، إذا تم اختيار المتدربين بناءً على الأهواء الشخصية والوساطة، فسيُخلق جيل فاقد للانتماء، والنتاج الأخير لكل ما سبق ذكره هو وجود مجتمعات متخلفة رغم توفر المعرفة والموارد.

وبناءً على ما تم التطرق إليه من حيث التركيز على غرس القيم والمبادئ في نفوس البشر، وانعكاسات ذلك على المجتمع ككل، فإننا نوجه رسالة خالصة لكل من له دور في تربية الأجيال: إلى الآباء والأمهات، والمعلمين والأساتذة، والخطباء والمرشدين، والمدربين في الأندية، والقائمين على المراكز الثقافية، أن يعيدوا النظر في طرق وأساليب التربية والتعليم. ولا يكفي أن نلقّن أبناءنا المعلومات أو نغرس فيهم الطموح للنجاح المادي فقط، بل يجب أن نعلمهم كيف يكونون بشرًا قبل أن يكونوا علماء، وكيف يتحلون بالضمير قبل أن يملؤوا عقولهم بالمعلومات.

إن العالم الرقمي الذي نعيشه اليوم يحمل فرصًا كبيرة، لكنه يحمل تحديات أكبر، منها التفكك الأخلاقي والانفتاح غير المنضبط على أفكار وقيم غريبة؛ لذا، أصبح من الضروري تطوير مناهج وأساليب تعليمية تواكب هذا العصر، على أن يتم الدمج بين المعرفة والتربية، وبين المهارة والسلوك، بهدف صناعة جيل رقمي واعٍ، قوي الشخصية، نقي السريرة، قادر على حمل راية الأمة، والنهوض بجميع قطاعاتها في شتى المجالات. لأنه، كما قالها حقًا من سبقونا من ذوي الخبرات والعقول المتفتحة: "الأدب فضلوه على العلم".

search