الثلاثاء، 03 يونيو 2025

02:56 م

أحمد محارم يكتب: خميس بيصار فيوليت.. ذاكرة الإسكندرية الحية

الأحد، 01 يونيو 2025 11:28 م

أحمد محارم

الكاتب أحمد محارم

الكاتب أحمد محارم

في قلب مدينة لا تنام، وعلى أرصفة شارع فؤاد العتيق، تسير الذاكرة حيةً على قدمين اسمه خميس بيصار فيوليت، ليس مجرد بائع زهور، ولا مجرد شاهد على تحولات الزمن، بل هو رجل تختلط في ملامحه رائحة الورد بملح البحر، ودفء الحكايات ببساطة الروح.

عندما التقيته برفقة صديقي الكاتب والناشر هشام المغربي، لم يكن لقاءً عاديًا، بل أشبه بجلسة مع التاريخ نفسه، حكاياته ليست حنينًا عابرًا، بل مرآة صادقة لمصر كما كانت، وكما يجب أن تكون.

كنت محظوظًا أن أرافق صديقي العزيز، الكاتب والناشر هشام المغربي، في زيارة له حملت طابعًا خاصًا، ليست زيارة عابرة، بل عبور إلى زمنٍ آخر، زمنٍ تصوغ فيه الصدفة مصيرًا، وتصنع منه حكاية تستحق أن تُروى.

ولد العم خميس في يوم مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان قدومه إلى الدنيا مباركًا، يحمل معه رمزية عميقة لروح النور والهداية. وبعد عشرة أعوام فقط، في 15 فبراير 1957، افتتح والده متجر “فلوريل” الشهير في شارع فؤاد، والذي تحوّل مع الوقت إلى معلمٍ من معالم الإسكندرية، لا تفوح منه رائحة الورد فقط، بل عبق الذاكرة.

رغم دراسته للقانون، لم يتجه خميس إلى المحاماة، بل اختار طريقًا أكثر التصاقًا بالناس. عاش بينهم، فهمهم، وتفاعل مع تحولاتهم. فالقانون من وجهة نظره لم يكن مهنة، بل وسيلة لفهم الحياة بتعقيداتها وعدالتها وإنسانيتها.

نشأ في الإسكندرية الكوزموبوليتانية، تلك المدينة التي جمعت على أرضها ثقافات متعددة؛ يونانية، فرنسية، إنجليزية، إيطالية… فصار خميس ابنًا لهذه الروح العالمية، لكنه ظلّ مخلصًا لهويته المصرية الأصيلة.

حياته كانت سلسلة من الصدف التي لم تكن عابرة، بل فارقة، تعامل معها بامتنان وذكاء، فصنع منها محطات مضيئة، من أبرزها، اختياره ضمن 7 أشخاص فقط من العالم، لتكريمهم في سويسرا عام 1986، من قِبل مؤسسة عالمية متخصصة في فنون الورود، بمناسبة مرور 40 عامًا على تأسيسها. 

شارك في مسابقة عالمية وفاز، وسافر برفقة أسرته، وعاد محمّلًا بلقب وتقديرٍ دولي، أضافه إلى رصيد تجربته الثرية.

لكن الأعظم من الجوائز، كانت حكاياته. لم تكن عن ذاته بقدر ما كانت عن الناس، عن المدينة، عن الزمن. حكاياته تنبض بالقيم، تتسلل إلى القلب بلغة بسيطة، لكنها مشبعة بالفهم العميق والحنين لزمن أنقى.

خميس بيصار فيوليت ليس مجرد اسم، بل شاهدٌ حي على وجدان مدينة، ذاكرته تحفظ شوارع الإسكندرية كما لو كانت مكتوبة على جدران قلبه، يتحدث عنها بلهفة من عاش تفاصيلها، وبفخر من ساهم في صياغة نسيجها الاجتماعي والإنساني.

وقد يكون لقاؤنا به هو إحدى أجمل الصدف في حياتنا.
وهكذا، لم يكن خميس بيصار مجرد رجل يبيع الزهور في شارع عتيق، بل كان هو الزهرة النادرة في بستان الإسكندرية… رجلٌ تجسّدت فيه ملامح مدينةٍ بأكملها، فصار ذاكرة حيّة تمشي، وقلبًا نابضًا بالمحبة، وسيرةً تتوهّج كلما أستُعيدت.

في زمنٍ يُهدَر فيه التاريخ وتُنسى التفاصيل، يقف خميس شاهدًا على حقبةٍ من الزمن النظيف… يذكر، ويحكي، ويُضيء ممرات الماضي بحنينه الراقي، وبحكمته البسيطة العميقة.

إنه واحد من أولئك القلائل الذين يجعلونك تؤمن أن الروح لا تشيخ ما دامت مغموسةً في الجمال والصدق، وأن المدن العظيمة لا تكتب تاريخها بالحجارة فقط، بل بأشخاصٍ مثل خميس.. لا يرحلون، لأنهم في الحقيقة جذرٌ ممتد في ذاكرة المكان

search