الخميس، 18 سبتمبر 2025

11:58 ص

باسم عوض الله يكتب: مرة واحد صعيدي.. مرة واحد فلاح!

الخميس، 18 سبتمبر 2025 09:08 ص

باسم عوض الله

باسم عوض الله

هل تعلمون أن أجدادنا الأعزاء الغاليين بالمدن الكبرى هم أحد أسباب نكبات المحروسة العظيمة..! أعلم وأرى بحدسي علامات التعجب والاستفهام وكافة علامات الترقيم وهي تهاجم أذهانكم الواقعة بين جنبات التضارب مما أقول. نعم يا أحبائي فمن سبقونا بمئات السنين قد تناسوا تعاليم الكتب السماوية وتوجيهات رب السماوات والأرض وأساسيات الأخلاق الحميدة؛ وهي الامتناع عن السخرية والتنمر والتقليل من بعضنا البعض بسبب وساوس شيطانية خداعة وأفكار بالية وأوهام خاوية بأنه مجرد مزاح لا أكثر، فهناك كلمة تُحيي وهناك كلمة تُميت. 

فإن سخرية الأجداد بالمدن الكبرى وخصوصًا مدينتي الغالية الجميلة العظيمة سابقًا والمشوَّهة حاليًا، مدينة التاريخ والحب والعلم إنها مدينة الثغر إنها الإسكندرية ملكة المدن، وأيضًا مدينة القاهرة وينضم إليهم المدن الساحلية؛ قد تجاوزت المدى من أبناء العموم بمدن الريف والصعيد العظيمة الجليلة، مما تسبب في تمزق جسد الوطن، وأدى إلى توارث ثأر الكراهية والبغضاء والغل والحسد والحقد الدفين بين أبناء الوطن. فقد باتت التعليقات كطلقات نارية بكل إيماءات وحركات وأفعال كل من ينتمون للريف والصعيد، وكأنهم كائنات غير بشرية آتية من كوكب المرعبين المريبين! مما أدى إلى ركود الضغينة بباطنهم تجاه أهل المدن الكبرى والعاصمة. 

اليوم يا سادة نجد معظم أحبائنا بمدن الريف والصعيد منذ عشرات السنين قد هجروا أراضيهم الزراعية الغناء التي تطعمنا وتشبع بطوننا، وتركوا حِرَفِهم الموروثة عن الأجداد، وتهافتوا بإحضار بعضهم البعض إلى المدن الكبرى، وتسارعوا بإلقاء جلبابهم العظيم، وبذلوا كل ما بوسعهم كي يتنصلوا من أصولهم العتيقة ويتبرأوا من جذور أجدادنا القدامى؛ كي يثبتون لأهل المدن الكبرى بأنهم أجدر منهم وأحق بما لديهم. 

هذا وجدير بالذكر أن ما أطرحه لا يقف حائلًا أمام السعي إلى الرزق، لكن كما يقول المثل (لكل مقام مقال)، فهل للضابط أن يقوم بعمل الطبيب؟ وهل للمهندس أن يقوم بعمل المزارع؟ إننا اليوم أصبحنا في خلل مميت ومدمر بكل أركان الحياة اليومية، وقد حلَّ على ذهني إعلان أحد البنوك الوطنية الكبرى بشهر رمضان الكريم والذي سلط الضوء على قروض المشروعات الصغرى، من خلال الفكرة الإعلانية والترويجية العبقرية بأن يعمل كل فرد ما يحب وما يفهمه جيدًا وله خبرة به. 

لقد كبرنا ونحن نشاهد أفلام الأبيض والأسود ومشاهير المونولوجست وهم يتهافتون بالسخرية من أهل الريف والصعيد، فكانوا يبدأون فقرات التطاول بإحدى الجملتين الشهيرتين (مرة واحد فلاح) أو (مرة واحد صعيدي). وهل هناك يا سادة رقعة جغرافية بكوكب الأرض تخلو من الطيب والشرير أو من المثقف والجاهل أو من الطبقة المتوسطة والطبقة الشعبية؟! فكل مكان يتَّسم سكانه بالصالح والطالح من الصفات والسمات، لذلك من السهل أن نشجع أي أحد إن كنا أسوياء، وأيضًا من السهل أن نسخر من أي أحد إن كنا مُختلِّين.  

للأسف إن حِدَّة التهكم والازدراء والاستهزاء من طرف أجدادنا وأحفادهم الذين يتبعون نفس السلوك السيء حتى الآن تجاه أبناء الريف والصعيد هو من أدى إلى اصطدام وتنافر المجتمع، فتجد أشخاصًا لا يَمُتُّون بصلة بالمناصب التي يشغلونها، وبشكل تلقائي يفرضون سلوكهم وفكرهم ومرجعيتهم وثقافتهم، مع الأخذ في الاعتبار أن هناك أحيانًا من يترك بصمة إيجابية لكن الأغلب يترك بصمات سلبية للغاية. 

أتعلمون أن ذلك الموضوع أيضًا هو أحد الأسباب الإستراتيجية التي أدت إلى كارثة التضخم الجامعي والكم الجنوني للشهادات العليا الأكاديمية والتي امتدت تلك الأيام إلى شهادات الدراسات العليا مثل الماجستير والدكتوراة - مع كل تقديري وفرحتي العارمة لكل إنجاز بشري لكن على أساس منطقي وليس تعويضا لنقصٍ واهم -. وفي المقابل أصبح لدينا شبه انعدام للشهادات العلمية الفنية والتي باتت وصمة عار على أكتاف الحاصلين عليها، مع العلم أن منذ زمن ليس بالبعيد كنا نسمع أن فلانًا ممن ينتمون للطبقة الوسطى قد تخرج من المعهد الفني بتخصص ما، لكن اليوم أصبحت تلك المعاهد لطبقات متواضعة جدًّا -إلا من رحم ربي-. بالإضافة إلى كافة الحِرَف التي تركها ممتهنيها بسبب رؤية المجتمع لها بأنها وظيفة متدنية، وما التدني والترقي إلا من شخوص البشر. بالإضافة إلى أن السخرية والتنمر من بعضنا البعض أدت إلى الهجرة الداخلية وضياع الاستفادة من المهارات والخبرات. فأصبح معظم أهل الريف والصعيد يريدون أن يتقلدوا مناصب بالإسكندرية والقاهرة تاركين مدنهم إلى مستقبل مجهول، وفي المقابل تحاول الدولة جاهدة في أن تعوض الرقع الخضراء المدمرة بأراض زراعية جديدة والقضاء على التعدي على الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى بناء مصانع للحرف المختلفة التي قربت على الاندثار. 

يا أحبتي كلًّا منَّا قيِّم وكلًّا منَّا ثمين وما الكمال إلا لله سبحانه وتعالى، يا أعزائي على كلٍّ منَّا أن يُدعِّم ثقته بذاته وبجذوره. هل تعلمون أن الغبطة تصيبني عندما أجد من يعتز بهويته من خلال زِيِّه ولهجته الريفية أو الصعيدية أو البدوية... إلخ، فيا ليت أهل المدن الكبرى باتوا محافظين على تلك التقاليد وغيرها من المظاهر الأصيلة -مع عدم اختزال التأثر بالثقافات المختلفة بالتوازي مع عدم محو الهوية الأصلية-. إن الأصل أساس يرتكز عليه الفرد ومن يتنصل عنه كمن انسلخ من جلده وتبرأ من أصله باحثًا عن رداء جديد، والكارثة هنا تكمن بأنه لن يستطيع أن يعود كما كان ولن يستطيع أن يكون كما تمنى، وسيبقى عالقًا بين الماضي المندثر والحاضر الزائف والمستقبل المجهول. 

فلنفتخر جميعًا بأصولنا وجذورنا الممتدة منذ آلاف السنين، ولنبتعد عن آفات الكبر والغرور، ولا ننسى أن ساخر اليوم هو ضحية الغد..! ولنا في توجيه ربِّ العِزَّة منهاج وفرض بآياته الكريمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ ۖ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ ۖ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ ۚ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) سورة الحجرات}.

الرابط المختصر

search