الخميس، 23 أكتوبر 2025

08:18 م

مينا غالي يكتب: محاكمة محمد صلاح

الخميس، 23 أكتوبر 2025 11:34 ص

مينا غالي

مينا غالي

في بلدٍ ينسى بسرعة، ويبدّل انفعالاته أسرع من تبديل قميص مباراة، نجد أنفسنا أمام مشهد عبثي متجدد: جماهير مصرية تحاكم محمد صلاح؛ ليس لأنه أخطأ في حقها، بل لأنه لم يقدّم لها ما تريد.. ففي كل مرة يطلّ فيها محمد صلاح على جمهوره، لا يخرج من دون تهمة جديدة.
مرة لأنه لم يتحدث بما يكفي عن غزة، ومرة لأنه لم يحقّق مع المنتخب ما يحقّقه في ليفربول، ومرة لأن زوجته ظهرت بفستان أو حقيبة أثارت الجدل، وأخرى لأن صورة شجرة كريسماس في بيته "جرحت مشاعر البعض"! بل وصل الأمر إلى أن تتحوّل زيارته لمستشفى أطفال في ليفربول إلى دليلٍ على "انحيازه" و"تجاهله" لأطفال غزة.
هكذا، أصبح محمد صلاح في قفص الاتهام، بينما القضاة هم روّاد المنصّات، وأحكامهم تُنفّذ بتغريدة!
وآخر فصول هذه "المحاكمة المفتوحة"، كان كمّ التعليقات السخيف التي اجتاحت السوشيال ميديا عقب غضب صلاح من مدربه الفني آرنِي سلوت، بعدما قرر الأخير عدم إشراكه أساسياً في مباراة آينتراخت فرانكفورت بدوري أبطال أوروبا، والاكتفاء بالدفع به بديلاً بعد أن حُسمت النتيجة.
غضب مشروع من لاعب قدّم لناديه كل ما يملك، لكن بعضًا من الجماهير المصرية لم ترَ سوى فرصة جديدة للشماتة والتقليل، وكأن الدفاع عن تاريخه مع ليفربول صار تهمة أخرى تضاف إلى ملفه الطويل أمام "محكمة المنصات".
المؤسف أن من يحاكمونه لا يبحثون عن الحق، بل عن فرصة لتفريغ غضبهم. لم يغفروا له أنه نجح في بيئة عالمية، بينما هم ما زالوا يدورون في دوائر الشكوى. لم يغفروا له أنه صار رمزاً تتجاوز قيمته حدود الملعب، وأنه اختار أن يتصرف كإنسانٍ ناضجٍ، لا كمُزايد يركب الموجة لإرضاء المتابعين.
محمد صلاح لم يتخلَّ عن قضيته، ولا عن بلده، لكنه اختار أن يدعم بطريقته، دون صخب أو شعارات. غير أن جمهور المنصات يريد بطلاً على مقاس غضبه، لا على مقاس الواقع. يريد صلاح أن يصرخ حين يصرخون، ويصمت حين يصمتون، وأن يتحرك وفق توقيتهم، لا وفق قناعاته.
تلك ليست جماهير، بل هيئة رقابة أخلاقية رقمية تحاكم النية قبل الفعل. 
ثم يأتي الاتهام الأبدي: "لم يفعل مع المنتخب ما يفعله مع ليفربول"، وكأن الرجل وحده يلعب بـ11 قميصًا، وكأن الفرق بين منظومة احترافية بُنيت على تخطيط دقيق، ومنتخب يعاني سنوات من سوء الإدارة، مجرد تفصيل بسيط لا يستحق الذكر. يريدون منه أن يصنع مجداً وسط الفوضى، وينتصر رغم كثرة المُعوّقات.
حتى حياته الخاصة لم تسلم من التفتيش. زوجته تُنتقد على اختيار ملابسها، وابنته تُهاجَم لأنها تلهو في الملعب، وصورته بجانب شجرة عيد ميلاد تُفسَّر كدليل على "التغريب"! في زمنٍ تحوّل فيه الفضول إلى محاكمة، لم يعد لصلاح الحق في أن يعيش كإنسان طبيعي، له خصوصيته، وله خياراته التي لا تنتقص من مصريّته ولا من إيمانه.
الحقيقة أن هذه ليست محاكمة لمحمد صلاح، بل محاكمة لوعينا نحن، لثقافة لا تتحمّل أن ينجح أحد خارج دوائرها. نُصفّق حين نحتاج رمزاً، ونهاجمه حين يذكّرنا بعجزنا. نخلط بين الوطنية والمزايدة، بين التدين والوصاية، بين النقد والتجريح.
إنها محاكمة عبثية لرجل لم يرتكب إلا "ذنب النجاح"، ولشخصية لم تعرف إلا الاجتهاد والصبر والانضباط.
ومن يُحاكمه اليوم سيعود غداً ليحتفل بإنجازه القادم، لأن التاريخ لا يُكتب بتعليقات، بل بما يتركه الإنسان من أثر.. وصلاح ترك أثراً لا يُمحى، مهما علا صراخ المزايدين.

الرابط المختصر

search