الخميس، 30 أكتوبر 2025

09:17 م

محمد مطش يكتب: بوصلة الروح في زمن الغيوم

الخميس، 30 أكتوبر 2025 11:09 ص

محمد مطش

محمد مطش

في زمن تُسيطر فيه الشاشات على المشهد، وتتسارع فيه وتيرة التغيرات القِيَمية، يبرز مفهوم القدوة كحاجة إنسانية وجودية، وليست مجرد رفاهية أخلاقية، إنها الحقيقة التي تمنح الأجيال الناشئة دليلاً إرشاديًا عمليًا، يُمكِّنها من تجاوز فوضى الاختيارات وعبور ضبابية المستقبل.

فتعرف القدوة أو المثل الأعلى على انها ليست شخصية نُعجب بها من بعيد؛ بل هي النموذج السلوكي الحي، الذي يترجم المبادئ الفلسفية والأخلاقية إلى أفعال يومية ملموسة، فالقدوة هي الترجمة الصادقة للقيم؛ فعندما يرى الإنسان الصدق مجسدًا في سلوك قائد أو معلم، يصبح هذا السلوك قيمة راسخة في وجدانه، لا مجرد نظرية تلقينيه. لان القدوة هي جسد الفكرة، وهي ما يمنح الأمل بأن الكمال الإنساني النسبي ليس حلماً، بل واقع يمكن تحقيقه عبر الجهد والمثابرة. وتكمن أهمية هذا النموذج في أنه يوفر اختصارًا للتجارب المعرفية الطويلة. بدلاً من أن يضيع الفرد عمره في التجربة والخطأ، يجد في قصة القدوة خارطة طريق مُنارة بالفعل، تُرشده إلى التعامل مع الفشل والنجاح، مما يجعلها بحق بوصلة الروح في عالم يضج بالتحديات.

ويذكر أن تاريخ البشرية مليء بالقصص، التي تُثبت أن نموذجاً واحداً كان كافياً لتغيير مجرى حياة فرد، أو مسار أمة بأكملها. لإن قوة القدوة ليست في انتشارها، بل في عمق تأثيرها الشخصي. وعندما يرى الشاب أن شخصًا من خلفيته المتواضعة أو بيئته الصعبة قد وصل إلى قمم الإنجاز العلمي أو الأخلاقي، فإن هذا المشهد يكسر حاجز "الاستحالة" في عقله. هذا التأثير يشتغل على مستوى الإلهام والدفع الذاتي. فالقدوة تُرسل رسالة واضحة مفادها: "لقد نجحت أنا، ويمكنك أن تنجح أنت". كما أنها توفر دليلًا للطوارئ؛ فعندما يواجه الفرد أزمة قيمية أو ضغطًا اجتماعيًا، يعود لا إرادياً إلى مرجعية القدوة: "كيف كان سيتصرف هذا النموذج لو كان مكاني؟". هذه المرجعية هي ما يمنح الفرد الصلابة والثبات على المبدأ وقدرته في التغلب على المشكلات والتحديات التي يوجهه.

فالقدوة هي حجر الزاوية في بناء الشخصية السوية، ورسم خارطة الطريق المستقبلية للأجيال. وهي تلعب دوراً أساسياً على عدة محاور منها ترسيخ الهوية والقيم؛ فالقدوة توفر النموذج الثقافي الذي يربط الأبناء بتراثهم وقيمهم الوطنية والإنسانية. عندما تكون القدوة من داخل الثقافة، فإنها تمنح الأبناء إحساساً قوياً بالانتماء والتفرد، كما ان القدوة تلعب دورا هاما في التخصص وتحديد الرؤية ففي عالم التخصصات الدقيقة، تساعد القدوة الشباب على تحديد أهدافهم المهنية مبكراً، فالقدوة في مجال معين تفتح للشباب آفاقًا غير مرئية، وتوجه طاقتهم نحو مسار إنتاجي وفعال. وأيضا يكون للقدوة دورا في المرونة ومواجهة الفشل لان القدوة الصادقة لا تخفي إخفاقاتها. بل تُظهر للأجيال الجديدة كيف يمكن تحويل الفشل إلى محطات تعلم ومنصة انطلاق جديدة. إنها تعلمهم أن الطريق إلى العظمة محفوف بالعثرات، وأن الاستسلام ليس خياراً.

ومما لا شك فيه أن أثر العظماء هو ما صاغ تاريخنا؛ من قادة الفكر إلى أيقونات العلم والفن والثقافة والمعرفة وغيرها. ولكن هل ما زلنا نعيش عصر العظماء في شتى المجالات؟ نعم، العظماء موجودون، لكن المشكلة تكمن في صعوبة رؤيتهم وتقلص تأثيرهم في ظل الفضاء الرقمي الصاخب. لقد أصبحنا نعيش عصر الغربلة المعيارية. حيث يقوم "مؤثرو السوشيال ميديا" الذين تسيطر عليهم السطحية والاستعراض بحجب النماذج الحقيقية التي تبني وتُنتج في صمت. والتحدي اليوم هو تمكين الأجيال من التمييز بين الشهرة الزائلة والقيمة الباقية. وعلى المؤسسات التربوية والإعلامية أن تُعيد تسليط الضوء على نماذج الجدية والالتزام، ومواجهة ثقافة الترفيه والاستهلاك المفرط بنماذج الإنجاز والإتقان.

ولكن إذا غابت القدوة البانية، وحلّت محلها الفوضى القيمية، فان نتائجها السلبية وخيمة حيث يجد الأبناء أنفسهم في فراغ، مما يجعلهم هدفاً سهلاً لتبني أي سلوكيات دخيلة أو منحرفة، كما إنها أشبه بخلل فادح في الحمض النووي للمجتمع، حيث تنهار المعايير المشتركة للسلوك المقبول.

وفي غياب النموذج الراشد، يسود التشتت والضياع، وتتفكك الروابط بين الأجيال، ويسيطر عليها الشعور بالانفصال والانعزال، مما يُمهد لسيطرة الفوضى السلوكية وانحلال المعايير الأخلاقية.

وفى نهاية الامر، ستظل القدوة هي الركيزة الأعمق للتربية السليمة، والمحرك الأبدي للتقدم الإنساني. في غيابها، يحدث خلل في مجريات الأمور وتتجه السفينة إلى الانحراف. فالقدوة ليست مجرد شخص، بل هي ميثاق بين الأجيال على التمسك بأعلى درجات القيم الإنسانية.

إنها دعوة للجميع، أن نُدرك قيمة هذه المرآة الأخلاقية في حياتنا، وأن نسعى لكي نكون نحن أنفسنا نماذج نيرة، لأن كل فرد هو قدوة في محيطه الصغير. وبغياب القدوة، لا تفقد الأجيال الناشئة خارطة طريقها فحسب، بل يفقد المجتمع بأكمله بوصلته، ويسود انحلال المعايير وسيادة الفوضى على كافة مناحي الحياة.

الرابط المختصر

search