الأربعاء، 05 نوفمبر 2025

01:19 م

أحمد فاضل يكتب: تنزانيا بين صندوقٍ سقط وشارعٍ انتفض

الأربعاء، 05 نوفمبر 2025 11:05 ص

أحمد فاضل

الكاتب أحمد فاضل

الكاتب أحمد فاضل

في مشهدٍ جديد من مشاهد الغليان الإفريقي، تحوّل مطار دار السلام الدولي إلى ساحة مواجهة بين السلطة والشعب، بعدما اقتحم محتجون صالاته لمنع عددٍ من أفراد النخبة السياسية من مغادرة البلاد عقب انتخاباتٍ مزورة ومثيرةٍ للجدل.
لم يكن ذلك مجرد فوضى انتخابية عابرة، بل تجسيد لانفجارٍ مكبوت في وجه منظومة سياسية أنهكتها المركزية والفساد، وابتلعتها صراعات المصالح الإقليمية والدولية، لتضع القارة السمراء مجددًا أمام سؤالها الأزلي:
من يملك الشرعية حين يخون الصندوق ثقة الناخبين؟


لقد سقط الصندوق هذه المرة ليس لأن نتائجه قد زُوّرت، بل لأنه فقد معناه كمؤسسة تمنح الثقة وتعبّر عن الإرادة، إنها لحظة إدراكٍ جماعي بأن الديمقراطية الشكلية لا تُنقذ وطنًا غارقًا في الفساد والتبعية، وأنّ “التصويت” لم يعد كافيًا حين تغيب العدالة وتُصادر الكرامة.

وما يحدث حاليا في تنزانيا لا يمكن عزله عن خريطة التحولات المتسارعة في شرق إفريقيا، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى — من واشنطن إلى بكين وموسكو — على أرضٍ غنيةٍ بالذهب والغاز واليورانيوم، لكنها فقيرة في العدالة والتنمية.


الانتخابات التي وُصفت بالمضطربة والمزورة كشفت هشاشة البناء الديمقراطي في دولٍ لا تزال تئنّ تحت إرث الحزب الواحد، وتغريها لذة السلطة المطلقة.


ولم يكن المحتجون الذين اقتحموا المطار يطالبون بإعادة فرز الأصوات فحسب، بل بإعادة تعريف “المواطنة” نفسها في وطنٍ تتسع فيه المسافة بين الحاكم والمحكوم، ويتقلص فيه الأمل في مستقبلٍ يُبنى على الشفافية والكرامة.


وتُظهر التجربة التنزانية أن كثيرا من الأنظمة الإفريقية تعيش حالة “جمودٍ ديمقراطي”،
تتداول فيه النخب السلطة كما تتبادل المقاعد في طائرةٍ لا تقلع أبدًا.


الانتخابات تُجرى بانتظام، لكن نتائجها معروفة سلفًا، لأنّ المؤسسات الانتخابية لم تتحرر من وصاية السلطة ولا من سطوة المال.


وفي ظل هذا الانسداد، لم يعد المواطن يفرّق بين الصندوق كأداة تمثيل، والديكور السياسي كأداة تضليل.

لقد تحوّل الصندوق إلى رمزٍ للخذلان أكثر منه للأمل، فبينما تُرفع الشعارات عن الديمقراطية والتعددية، يعيش المواطن الإفريقي بين جوعٍ مزمنٍ وفسادٍ مستوطنٍ وصوتٍ لا يُسمع.


ومن هنا جاءت لحظة الانفجار: الشارع الذي لم يجد في المؤسسات طريقًا، وجد في المطار منبرًا.

توقيت الاحتجاجات في تنزانيا ليس صدفة، بل يأتي في لحظةٍ تغلي فيها القارة الإفريقية على صفيحٍ من التوترات والصراعات الخفية.


القوى الكبرى أمريكا، والصين، وروسيا  تتقاسم النفوذ في دولٍ هشّة البنية، تُدار فيها الثروات كغنائم، وتُختزل فيها الديمقراطية إلى “واجهة تجميلية” تُخفي تحتها جراح القمع والتهميش.


وفيما تكتفي العواصم الغربية ببياناتٍ باردةٍ تدعو إلى “الهدوء” و”ضبط النفس”، تُركت تنزانيا تغرق في فوضى غير مسبوقة.

مصادر دبلوماسية أكدت أن عدد القتلى تجاوز ثلاثين شخصًا، في ظل صعوبة التحقق من الحصيلة بدقة بسبب حظر الصحافة الأجنبية ومنع المراقبين الدوليين.


الاضطرابات امتدت إلى مناطق أخرى مثل سونغوي غربًا ومدينة أروشا السياحية شمالًا، في مشهدٍ ينذر بانزلاق البلاد نحو فوضى شاملة.


وتزايد الغضب الشعبي ضد نجل الرئيسة عبدول حسن، الذي يترأس — بحسب تقارير أفريكا إنتليجنس — فريقًا غير رسمي من عناصر الأمن والاستخبارات لإدارة ملف الانتخابات.


المجلة نفسها كشفت عن موجة اختطافاتٍ استهدفت معارضين في الأيام التي سبقت التصويت، من بينهم المؤثر المعروف نيفّر، الذي اتُهم بالتحريض على الاحتجاج من خلال مقاطع ساخرة، فاختفى من المشهد كغيره ممن حاولوا أن يتكلموا بصوتٍ مرتفع.

إنّ ما تشهده تنزانيا اليوم ليس أزمةً انتخابية فحسب، بل لحظة ولادةٍ جديدةٍ لوعيٍ شعبيٍ يرفض أن تُختزل الديمقراطية في ورقة اقتراعٍ تُسرق إرادتها قبل أن تُفرز نتائجها.

إنّ الحدث التنزاني يفتح الباب على مرحلةٍ جديدة من التحولات السياسية في القارة السمراء.
فهو لا يعكس فقط أزمة داخلية، بل يعيد طرح السؤال حول موقع إفريقيا في النظام الدولي الجديد.
إذا استمرت الأنظمة في إنكار الواقع، فإن “الاحتجاج الدوري” سيصبح الشكل الجديد للمشاركة السياسية.
أما إذا وعَت الدروس، فربما تشهد القارة نقلةً ديمقراطيةً حقيقية، تولد من رحم الألم لا من نصائح الخارج.
ختاما، ما جرى في دار السلام لم يكن احتجاجًا على نتيجةٍ انتخابية، بل على معنى «الوطن» نفسه.

الرابط المختصر

search