الأربعاء، 05 نوفمبر 2025

09:58 م

أحمد فاضل يكتب: فوز ممداني مولد زعيم عالمي جديد

الأربعاء، 05 نوفمبر 2025 08:04 م

احمد فاضل

احمد فاضل

في لحظةٍ فارقة من التاريخ السياسي الأميركي، اختارت نيويورك أن تعيد تعريف نفسها وتعيد صياغة صورتها أمام العالم عبر انتخاب زهران ممداني عمدةً لها.
زهران ممداني الحلم بأن يكون الرئيس الأميركي القادم — لا لأنه فاز بمنصب عمدة نيويورك، بل لأنه يمثل اليوم روح أميركا التي تبحث عن نفسها من جديد.
ففي كل كلمةٍ قالها، وكل يدٍ صافحها في شوارع كوينز وبرونكس، كان يرسم ملامح أميركا المقبلة: أكثر عدلاً، وأقرب إلى الإنسان.
لم يكن الحدث مجرد تنافسٍ انتخابيٍ عابر، بل نقطة تحوّل تعيد ترتيب فلسفة السلطة داخل البنية الأميركية ذاتها،
وتكسر شوكة التيار الشعبوي الذي قاده دونالد ترامب والجمهوريون لسنوات، في واحدة من أكثر المعارك الرمزية عمقًا في الوعي السياسي الأميركي الحديث.

لقد مثّل فوز ممداني صفعة سياسية وفكرية للترامبية بوصفها فلسفة حكمٍ قائمة على الخوف من الآخر،
وانتصارًا لتيارٍ جديد يؤمن بأن السياسة ليست إدارة للمصالح فقط، بل مسؤولية أخلاقية تجاه الإنسان.
المدينة التي طالما كانت مرآةً للرأسمالية المتفوقة، قررت هذه المرة أن تصوّت لمن يملك الضمير والرؤية الواضحة ويفهم الإنسان ويشعر بآماله وآلامه، وأن تقول لا لمن يملك المال وتصرخ بأعلى صوتها لا لمن يُدير السوق.

لقد جاء ممداني، المولود في أوغندا لأبوين من أصول هندية، ليحمل رسالة مختلفة: أن القيادة ليست امتيازًا وراثيًا، بل فعل وعي ومسؤولية تُبنى على القيم لا الأسماء.
وفي بلدٍ تمزقه الانقسامات الطبقية والعرقية وتطارده أزمات الهوية، بدا هذا الاختيار إعلانًا عن ولادة وعيٍ سياسيٍ جديد،
وعيٍ يرى أن التنوّع ليس خطرًا بل ثروة، وأن المدينة لم تعد مجرد واجهة للنظام، بل عقلٌ ناقدٌ له.

ولم يكن خطاب النصر الذي ألقاه ممداني مجرد احتفال، بل إعلان فلسفة جديدة للقيادة.
وقف أمام جمهور ضخم في قلب كوينز وقال:

“لطالما قيل لطبقة العمال في نيويورك من قبل الأغنياء وأصحاب النفوذ إن السلطة ليست من حقهم، ومع ذلك، خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، تجرأتم أن تمدّوا أيديكم نحو ما هو أعظم.
واليوم، رغم كل الصعاب، أمسكتم بالمستقبل، المستقبل بين أيدينا.”

كانت كلماته تذكيرًا بأن التغيير الحقيقي لا يُصنع في الأبراج العالية، بل في العقول التي ترفض الاستسلام، وفي أيدي من أنهكتهم الأعمال الصغيرة لكنهم حملوا الحلم الكبير.
وأضاف ممداني في لحظة مؤثرة:

“لقد أسقطنا سويًا سلالةً سياسيةً قديمة.. نيويورك، لقد منحتموني الليلة حق التغيير، من أجل سياسةٍ جديدة، من أجل مدينةٍ يمكننا العيش فيها، ومن أجل حكومةٍ تعمل حقًا من أجل الناس.”

زهران ممداني ليس مجرد سياسيٍ صاعد، بل علامة على تحوّلٍ حضاريٍ واسع في مسار الإمبراطورية الأميركية.
ولعلّ المفارقة الأبلغ أن هذا التحوّل لم يحدث في قاعات البيت الأبيض، بل في شوارع نيويورك، حيث قرر الناس أن يستعيدوا الدولة من قبضة الشركات والإعلام ولوبيات المال.
إنه فوزٌ يتجاوز الشخص إلى الفكرة، ويتجاوز المدينة إلى النموذج، ويتجاوز أميركا إلى العالم، ففي لحظةٍ نادرة، تحوّلت الديمقراطية الأميركية من أداةٍ للهيمنة إلى أداةٍ للتحرر، وهنا تكمن القيمة التاريخية لممداني: ليس لأنه أول مسلمٍ يحكم نيويورك، بل لأنه أول من كسر جدار “الهوية المملوكة”، وأعلن ولادة “أميركا الإنسان” من تحت ركام “أميركا السوق”.

وفق نظرية أنطونيو غرامشي حول “الهيمنة الثقافية”، فإن سقوط السيطرة لا يبدأ بثورةٍ، بل من تآكل القبول الجماهيري للنظام القائم، وفوز ممداني يمثّل لحظة تآكلٍ جماعيٍ للرضا الأميركي عن المنظومة النيوليبرالية، فالهامش بدأ يكتب التاريخ، والعالم بدأ يشهد تبدّلًا في اتجاه الجاذبية السياسية، من واشنطن كمركزٍ للقرار، إلى نيويورك كمختبرٍ للتجريب الاجتماعي، ومن السلطة المتعالية إلى السلطة المُمثلة للناس.

وفي لحظة تحدٍّ رمزية وجّه ممداني رسالة مباشرة إلى ترامب، قائلاً: "إن كان هناك من يستطيع أن يري الأمة التي خدعها دونالد ترامب طريق الخلاص منه، فهي المدينة التي أنجبته.
وإن كانت هناك طريقة لإخافة المستبد، فهي بتفكيك الشروط التي سمحت له بتجميع سلطته، فاسمعني جيدًا يا ترامب: لتصل إلى أحدنا، عليك أن تمرّ بنا جميعًا.”

كان ذلك المقطع بمثابة بيان سياسي حقيقي، لا يخصّ نيويورك وحدها بل روح أميركا الجديدة، أميركا التي تريد استعادة معنى السياسة كأداة لخدمة الناس لا لإخضاعهم.

سياسات ممداني ليست وعودًا انتخابية، بل برنامج لإعادة هندسة العدالة الحضرية، فهو يدعو إلى رفع الحد الأدنى للأجور إلى ثلاثين دولارًا، وتجميد الإيجارات في مدينةٍ تُعد الأغلى عالميًا، وجعل النقل العام مجانيًا كحقٍّ إنساني لا امتيازٍ طبقي، وفرض ضرائب تصاعدية على رؤوس الأموال الكبرى، واعتماد سياساتٍ بيئيةٍ عادلة تُحمّل الشركات كلفة التلوث لا المواطنين.
هذه ليست شعارات يسارية، بل إعادة إحياءٍ للعقد الاجتماعي الأميركي الذي مزّقته الليبرالية المتوحشة منذ الثمانينات.
ومن منظور العلاقات الحضرية–السياسية، يحاول ممداني أن يحوّل نيويورك إلى نموذج دولةٍ داخل الدولة، مختبرٍ اجتماعيٍ يُعيد تعريف معنى “المدينة الأميركية” كفضاءٍ للعدالة لا كأداةٍ للربح، وكجسرٍ جديدٍ بين الإنسان والمواطنة، بين الحلم والإمكانية، بين الأخلاق والسياسة.

ويقول في خطابه:

“نيويورك ستظل مدينة المهاجرين — بُنيت بهم، وتعمل بهم، واليوم تُقاد بأحدهم. في هذا الظلام السياسي، ستكون نيويورك منارةً للنور.”
يأتي هذا التحول في وقتٍ تتراجع فيه الثقة بالمؤسسات الفيدرالية،
وتتصاعد النزعات الشعبوية التي مثّلها دونالد ترامب بخطابه القائم على الخوف من الآخر ووهم “استعادة أميركا القديمة”.
في مواجهة هذا الخطاب، قدّم ممداني نموذجًا معاكسًا تمامًا: نموذجًا يرسّخ المواطنة الجامعة بدلاً من الهوية الضيقة، ويعيد تعريف السياسة كمسؤوليةٍ أخلاقيةٍ لا صراعًا على الامتيازات.
فبينما بنى ترامب خطابه على الكراهية، بنى ممداني حملته على العدالة والكرامة الإنسانية. وبينما جعل الأول من السلطة وسيلةً للتمييز، جعل الثاني منها أداةً للتقريب بين الفئات، مُعلنًا أن المدينة لا تُدار بالخوف، بل بالأمل،
ولا تُبنى بالعزلة، بل بالشراكة.

البرنامج الذي طرحه ممداني هو رؤيةٌ فلسفية قبل أن يكون خطةً إدارية.
فهو يدرك أن العدالة ليست قرارًا سياسيًا، بل مشروعًا اجتماعيًا طويل المدى، ومن ثم فإن مشروعه لإعادة توزيع الموارد — عبر رفع الأجور وتجميد الإيجارات وتوسيع الخدمات المجانية — ليس رفضًا للرأسمالية،
بل محاولة لإعادة توازنها الأخلاقي وإنقاذها من ذاتها.
لقد أراد أن يقول: يمكن أن تكون نيويورك مدينةً غنية، دون أن يكون فقراؤها عبيدًا لأسعارها.

زهران كوامي ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، أصبح العمدة الـ111 لمدينة نيويورك، وأصغر من تولى هذا المنصب في تاريخها الحديث، وأول مسلمٍ وأول أميركي من أصولٍ جنوب آسيوية يتولاه.
خاض معركة انتخابية غير متكافئة، وهزم الحاكم السابق أندرو كومو بعد مواجهةٍ ثانية خلال خمسة أشهر، رغم دعم الرئيس ترامب العلني لمنافسه.
بلغت نسبة المشاركة أكثر من مليوني ناخب، وهي الأعلى منذ عام 1969، في مؤشرٍ على تعبئةٍ جماهيرية غير مسبوقة.

دخل ممداني السباق كمرشحٍ احتجاجي بلا شهرة ولا دعمٍ مؤسسي، لكنه نجح بفضل تواصله المباشر مع الناس،
واستراتيجيته القائمة على البساطة والصدق، في الوصول إلى قلب الناخب الأميركي العادي.
ركّز على قضايا المعيشة، والقدرة على تحمّل تكاليف الحياة، والعدالة الاجتماعية،
فوجد صدى في الأحياء العاملة وفي أوساط الشباب والمهاجرين.
استخدم وسائل التواصل الاجتماعي بذكاءٍ لافت،
فكانت حملته نموذجًا لما يسميه بعض الباحثين الآن بـ “الواقعية السياسية” —
مرحلة جديدة في الممارسة الديمقراطية تتجاوز الخطاب الشعبوي المليء بالعواطف،
والخطاب النخبوي المليء بالتجريد، نحو خطابٍ واقعيٍّ يتحدث لغة الناس ويعالج همومهم اليومية.

وفي نهاية خطابه قال جملةً تلخص فلسفته في الحكم:

“قال أحد العظماء من أبناء نيويورك: تُخاض الحملات بلغة الشعر، لكن تُحكم المدن بلغة النثر.
وإن كان ذلك صحيحًا، فليكن نثرنا متناسقًا مع الشعر، ولنبنِ معًا مدينةً مشرقة للجميع.”

هذه الواقعية السياسية تمثل الردّ الحقيقي على الشعبوية.
فبعد أن تعب الأميركيون من الوعود الزائفة، جاء ممداني ليقدّم بديلًا صادقًا:
سياسيًّا لا يخفي هويته ولا يتنازل عن قناعاته، لكنه يتحدث بعقلانيةٍ ومسؤوليةٍ ووضوح.
حين كان المرشحون يتجنبون الحديث عن الضرائب أو فلسطين أو العدالة الطبقية خوفًا من الخسارة،
جعل ممداني من هذه القضايا محور حملته، فأعاد الثقة إلى السياسة بوصفها أداةً للإصلاح لا للمجاملة.

إن فوز ممداني لا يمثل دخول مسلمٍ إلى قاعة الحكم فحسب،
بل دخول مفاهيم جديدة إلى قلب النظام السياسي الأميركي — أبرزها الواقعية السياسية.
فما جرى في نيويورك ليس حدثًا محليًا، بل إشارة إلى أن الديمقراطية الأميركية بدأت تستعيد معناها الأصلي:
إرادة الناس قبل إرادة السوق، والمواطنة قبل الحسابات الحزبية.
لقد قدّم ممداني للعالم نموذجًا في أن الواقعية لا تعني التنازل، بل أن تكون قادرًا على إصلاح الواقع بدل الهروب منه.
وهكذا، يُغلق زهران ممداني فصلًا طويلًا من الشعبوية،
ويفتح صفحة جديدة عنوانها:
أن الضمير يمكن أن يحكم، وأن العدالة — مهما تأخرت — قادرة على أن تجد طريقها إلى السلطة.
لقد أعاد فوز ممداني إشعال الأمل الكوني في استعادة السلطة من براثن المال والأمن إلى ضمير الشعب وإرادته الحرة.
وإذا ما وصل يومًا إلى البيت الأبيض، فسيكون ذلك لحظة انعطاف تاريخي في المسار الأميركي والعالمي معًا — لحظة تنتقل فيها واشنطن من دعم الطغاة إلى دعم الشعوب، ومن رعاية أنظمة القهر إلى تمكين إرادات الحرية.
وحينها، قد تقود أميركا ميلاد نظامٍ اقتصاديٍ عالميٍ جديد، يقوم على حماية الفئات المهمّشة وصون كرامة العمال،
ويعيد للاقتصاد وجهه الإنساني بعد أن التهمته أنياب الرأسمالية المتوحشة.

الرابط المختصر

search