الجمعة، 07 نوفمبر 2025

03:52 م

عماد رجب يكتب: كيف غيّرت أمريكا ملامح الاقتصاد العالمي ودمّرت البيوت قبل الدول

الجمعة، 07 نوفمبر 2025 01:33 م

عماد رجب

عماد رجب

عماد رجب

لازلت أتذكر جيدًا بيوتنا في الماضي، كيف كانت تعج بالخبز والدواجن والمخزون المحلي من أصناف الطعام التي كانت أمي وجدتي تُعدّها بعناية لاي ظرف طارئ. فجارنا الذي توفي واجب علينا تجهيز طعاما لأسرته، وعمتي التي قدمت لزيارتنا لا يصح أن تعود إدراجها دون تقديم الواجب الذي يليق بقيمتها، وقيمة والدي ووالدتي.

كان كل شيء جاهزًا مع أي ظرف طارئ، فحتى ونحن في آخر الشهر وقرب الراتب من النفاد، لم نكن بحاجة للخروج لشراء أصناف كثيرة، لأن البيت كان مصنعًا صغيرًا من الاكتفاء الذاتي، والاعتماد على ما ننتجه بأنفسنا.

على مدار عقود طويلة، قادت الولايات المتحدة الأمريكية تحوّلًا جذريًا في الاقتصاد العالمي، دفعت فيه دول العالم من النسق الإنتاجي إلى النسق الاستهلاكي كنوع من الحروب الاقتصادية الجديدة، التي تضمن لأمريكا السيطرة. لم يكن هذا التحوّل تطوّرًا طبيعيًا، بل استراتيجية مدروسة لحماية مصالحها الاقتصادية، وضمان دوران عجلة مصانعها ومزارعها، ولو على حساب استقلال الشعوب واقتصاداتها المحلية.

كان التحوّل منظّمًا ومتدرّجًا: تغيّر في السياسات ببطء شديد، وتبدّل في أنماط المعيشة، وصعود ثقافة جديدة تُقدّس الشراء، وتحتقر الإنتاج اليدوي، ومع الوقت، أصبح الإنسان المستهلك دائمًا، تُحاصره الإعلانات المدروسة بعناية، وتُغريه بالرفاهية والتشبه بالاثرياء، فيقترض ليتباهى، ويشتري ليشعر بالوجود، حتى أصبحت الديون جزءًا من هوية العصر الحديث.

ولم يعد الاستهلاك مقتصرًا على الإلكترونيات الفارهة أو الكماليات الحديثة، بل تجاوز حدوده ليصل إلى أبسط مظاهر الحياة اليومية، حتى الأطعمة المحلية كالفول المدمس، الذي كان يُطهى في البيوت، أصبح سلعة جاهزة للبيع. بات الشراء غاية في حد ذاته، لا وسيلة لتلبية حاجة، وأصبحت العناوين البراقة والإعلانات الصاخبة هي عنوان المرحلة، مما فاقم الأزمات الاقتصادية وأفقد الناس قدرتهم على التمييز بين الرغبة والحاجة.

وصار الاستهلاك أشد جنونًا في مجال التكنولوجيا، حيث أصبح شراء الإصدار الجديد من الهاتف قبل أن تعرف حتى جزءًا من إمكانيات الهاتف القديم غاية في حد ذاته، فنرى طوابير الحجز على هواتف باهظة الثمن بلا حدود حقيقية، فيما ينفق المستهلك أمواله على مجرد الانتماء لعالم الإصدارات الحديثة، دون أي فائدة حقيقية وكأنها حرباً علي الأسر قبل الدول.

بل إن الشركات العابرة للقارات لم تتوقف عند مجرد إغراء الناس بالشراء، بل استغلت هذه الرغبة، وسرّعت وتيرة الإنتاج بشكل غير طبيعي. فمثلاً، أصبح الدجاج يُنتج ليصبح جاهزًا للطبخ خلال 30 يومًا فقط بدلًا من 6 أشهر كما كان طبيعيًا، فلم يعد له طعم ولا رائحة، الأمر الذي أدى إلى زيادة معدلات الأمراض المزمنة، مثل ارتفاع الكوليسترول والدهون الثلاثية، وضعف المناعة، والسرطانات وأمراض القلب والشرايين، إلى جانب ارتفاع تكلفة العلاج على الأفراد والدول.

لقد نجحت الشركات العابرة للقارات في إعادة تشكيل الوعي الجمعي للبشر، وربط السعادة بالاستهلاك، والمكانة الاجتماعية بما نملك لا بما نُنتج.  ومع كل إعلان جديد يَعِدُ بالراحة والسعادة، كانت أسرة تفقد استقلالها، ومجتمع يزداد هشاشة، ودولة تُستنزف مواردها لتغطية نفقات استهلاك لا طائل منها.

إن النسق الاستهلاكي لم يدمّر فقط الاقتصاد المحلي والفردي، بل أصاب روح الإنسان بالعجز، فبدل أن يكون منتجًا يسهم في بناء مجتمعه، أصبح أسيرًا لرغبات تُصنع له مسبقًا، يعيش على ما يصنعه الآخرون، ويغرق في ديون متراكمة، وتُخرب بيوت بأقساط، وتُرهق دول بأعباء استيراد متزايدة، بل وتمس صحته وحياته.

لقد آن الأوان لأن نعيد النظر في هذا الطريق الذي سُقنا إليه طوعًا، وأن نراجع علاقتنا بما نستهلكه. فالنهوض لا يبدأ من الأسواق، بل من الورش والحرف والمزارع، ومن وعيٍ يُعيد الاعتبار للإنتاج والعمل، قبل أن نصحو على عالم لا يُنتج فيه الإنسان سوى نفايات استهلاكه.

مقالات أخرى للكاتب:

سعد القاضي.. إذاعيٌّ كبير جعل للكلمة ضميرًا وللضوء منفذًا إلى القلب

عماد رجب يكتب : بعد سقوط الأسد: هل يعيد التاريخ سيناريو أفغانستان؟

الرابط المختصر

search