الجمعة، 07 نوفمبر 2025

08:56 م

أحمد فاضل يكتب: أمريكا المأزومة بين الإغلاق والانقسام والديمقراطية المنهكة

الجمعة، 07 نوفمبر 2025 07:34 م

أحمد فاضل

أحمد فاضل

فشلُ مجلس الشيوخ الأمريكي للمرة الـ14 في تمرير تصويتٍ يُنهي الإغلاق الحكومي ليس مجرد خللٍ تشريعي، بل هو حدث يكشف عمق الأزمة داخل بنية النظام نفسه، ويُعيد طرح سؤالٍ جوهري: هل ما زال النظام الأمريكي قادراً على إدارة نفسه، أم أن “الديمقراطية التي أنقذت العالم” صارت تحتاج من يُنقذها من نفسها؟

ما يجري اليوم في واشنطن ليس إغلاقاً مالياً عابراً، بل انكشافٌ هيكلي لشيخوخة المؤسسة التشريعية، وانفصالها عن منطق الدولة الحديثة التي تُدار بالكفاءة لا بالشجار الحزبي.

بدأت الأزمة في نهاية سبتمبر 2025، حين فشل الكونغرس الأمريكي في تمرير مشروع قانون الموازنة الفيدرالية للعام المالي الجديد، نتيجة خلافاتٍ حادّة بين الجمهوريين والديمقراطيين حول حجم الإنفاق العام، والمساعدات الخارجية، وبرامج الهجرة، وأصرّ الجناح اليميني في الحزب الجمهوري على خفض مخصصات الدعم لأوكرانيا وتقليص برامج الرعاية الداخلية، فيما تمسك الديمقراطيون بمواصلة تمويل تلك البنود باعتبارها «قضية أخلاقية وسيادية». 
ومع انتهاء المهلة الدستورية في 30 سبتمبر دون اتفاق، دخلت الحكومة الفيدرالية في إغلاقٍ جزئي رسمي شلّ عمل الوزارات والوكالات، وأوقف رواتب مئات الآلاف من الموظفين، وألقى بظلاله على القطاعات الحيوية في الدولة. 
ومنذ ذلك اليوم، تتوالى جولات الفشل داخل مجلس الشيوخ، حيث لم يتمكن الأعضاء — للمرة الرابعة عشرة — من كسر قاعدة «الفيليبستر» التي تتطلب 60 صوتاً لتمرير التصويت على إعادة فتح الحكومة. وبذلك تحوّل الخلاف المالي إلى شللٍ مؤسسيٍ شامل، وارتقى من نزاعٍ على الأرقام إلى أزمة ثقة في بنية الدولة نفسها.

الولايات المتحدة التي ابتكرت نظام التوازن بين السلطات تعيش مفارقة مروّعة، إذ تحوّلت أدواتُ الفصل التي وُجدت لحماية الديمقراطية إلى سكاكينٍ تمزّق جسدها الإداري. فالإغلاق الحكومي، الذي كان يُعد استثناءً دستورياً نادراً، أصبح سلاحاً متكرراً في لعبةٍ عبثية بين جناحين يرفع كلٌّ منهما راية “الشرعية الشعبية”. لكنّ النتيجة واحدة: أكثر من 700 ألف موظف فيدرالي في إجازةٍ إجبارية، و670 ألفاً أوقِفوا مؤقتاً، ومؤسسات الصحة والغذاء والطيران والبحث العلمي تعمل بنصف طاقتها أو أقل، والرسالة التي تصل إلى الداخل والخارج تقول: الدولة الأقوى في العالم عاجزة عن دفع رواتب موظفيها.

تتعمّق الأزمة الأمريكية لأن المشكلة لم تعد في السياسات، بل في فلسفة إدارة السلطة نفسها. فالحزبان الكبيران لم يعودا يختلفان على الأرقام، بل على المعنى: هل الدولة وسيلة لخدمة المواطن؟ أم أداة لتصفية الحساب الأيديولوجي؟ اليمين الجمهوري المتشدد يرى في الإغلاق “طهراً مالياً” ضد الإسراف الحكومي، فيما يعتبره الديمقراطيون “انتحاراً مؤسسياً”. 
وهكذا، غدت الميزانية، قلب الدولة، رهينةً للاهوتٍ سياسي جديد: الإغلاق كقربانٍ على مذبح العقيدة الحزبية.

لم تعد الخلافات بين الحزبين أفقية بل عمودية، إذ يرى كل طرف في الآخر تهديداً لجوهر الأمة نفسها. 
ومع تزايد سلطة الإعلام الانقسامي، تحوّل “النقاش العام” إلى خنادق رقمية مغلقة لا تواصل بينها، أما الدستور الذي صمد قرنين أمام الحروب، فقد بات عاجزاً عن استيعاب إيقاع العصر الحديث، بينما تحوّلت القواعد الإجرائية مثل “الفيليبستر” إلى أغلالٍ قانونية تكبّل القرار بدل أن توازن السلطة.
وإلى جانب ذلك، جعل المال السياسي واللوبيات النائب رهينة الممول لا الناخب، فتحولت السياسة إلى صفقةٍ لا فكرة، وارتفع ثمن التنازل حتى صار مستحيلاً.

في الداخل يخسر الاقتصاد الأمريكي ما يقارب 0.1% من الناتج المحلي أسبوعياً، وتتراجع الثقة بالمؤسسات إلى أدنى مستوياتها، بينما تمتد آثار الإغلاق إلى الأمن الداخلي والحدود والأمن السيبراني. وفي الخارج، يرى الحلفاء القلعة الديمقراطية تهتز من الداخل، ويقرأ الخصوم، من بكين إلى موسكو، هذا الانقسام بوصفه نقطة ضعف استراتيجية في خصمٍ يترنّح على طاولة الموازنة.

ما يحدث في واشنطن لم يعد أزمة سياسية بل تحوّلاً فلسفياً في مفهوم الدولة، إنها دولةٌ تتبنّى الشلل كآلية حكم، وتحوّل الفوضى إلى أداة تفاوض، والانقسام إلى فضيلة وطنية. هذا هو الشلل المقدّس: عجزٌ مُمأسس ومُشرعن باسم الديمقراطية، وفشلٌ يُرفع على الأعناق باعتباره دليلاً على النقاء الحزبي.

لكن هذا المسار يحمل في جوهره بذور فنائه. فالإصلاحات المؤقتة لن تعيد التوازن، والمسكنات التشريعية لم تعد تجدي. النظام الأمريكي يحتاج إلى إصلاحٍ هيكلي عميق يعيد تعريف السلطة ووظيفتها قبل أن ينهار تحت ثقل تاريخه، فأخطر ما يواجه الولايات المتحدة اليوم ليس عجزها المالي، بل العجز النفسي لنخبها السياسية عن الاعتراف بأن اللعبة انتهت على قواعدها القديمة.

الإغلاق الحكومي الأمريكي لم يعد مجرد أزمة مالية؛ إنه علامة فلسفية على أفول نموذج. لقد بُنيت أمريكا على فكرة “العقل المؤسسي”، لكنها اليوم تعيش لحظة “العجز المؤسسي”، حيث تتصارع الأيديولوجيات داخل جسدٍ واحد حتى يكاد يتمزق. إن إنقاذ الولايات المتحدة من نفسها لا يحتاج قانون تمويل، بل إعادة تعريف لوظيفة الدولة: أن تكون أداة خدمةٍ لا منصة حربٍ سياسية. وحتى يحدث ذلك، سيظلّ العالم يراقب هذا العملاق الذي يترنّح تحت ثقل عظمته، منتظراً إن كان سينهض من بين أنقاضه كإمبراطوريةٍ متجددة، أم كدرسٍ متأخر في أن القوة بلا حكمة لا تصنع دولة.

الرابط المختصر

search