الأربعاء، 19 نوفمبر 2025

01:07 م

محمد مطش يكتب: رسالة إنسانية في فن الحديث

الأربعاء، 19 نوفمبر 2025 11:16 ص

محمد مطش

الكاتب محمد مطش

الكاتب محمد مطش

يُعدّ الحوار من أرقى صور التواصل الإنساني، فهو الجسر الذي يربط بين العقول والقلوب، ووسيلة التفاهم بين الأفراد والمجتمعات. 

والحوار لغة إنسانية سامية تتجاوز الكلمات إلى المعاني، وتتعدى الأصوات إلى الفهم والتقدير. لذلك، فإنّ إتقان لغة الحوار ومخاطبة الناس على قدر عقولهم هو من علامات الحكمة والرقي الفكري والإنساني.
ان لغة الحوار ليست مجرد تبادل للكلمات، بل هي أسلوب للتفاهم والتواصل الهادف بين طرفين أو أكثر، قوامه الاحترام والاستماع المتبادل. فالحوار الحقيقي يهدف إلى الوصول إلى فهم مشترك أو حل بناء، لا إلى الانتصار في نقاش أو فرض رأي.

 وتقوم لغة الحوار على مجموعة من القيم أبرزها الصبر، والتواضع، والمرونة، والقدرة على الإنصات قبل الكلام. ومن خلال هذه اللغة الراقية تتجلى الإنسانية في أبهى صورها.

ولكي يكون الحوار مثمرًا، لا بد من التمييز بين أنماط الشخصيات التي نتعامل معها، فليس كل الناس يمتلكون الخلفية الثقافية أو المستوى الفكري نفسه، وليس الجميع يتقبلون النقد أو النقاش بالأسلوب ذاته. 

لذا من الحكمة أن يراعي الإنسان القدرات الفكرية والمستويات الثقافية والتعليمية والاجتماعية للطرف الآخر، فيبسط فكرته إذا كان المخاطب بسيط الثقافة، أو يستخدم المصطلحات المتخصصة إذا كان الحوار مع مثقف أو خبير. 

كما أن القدرة على قراءة لغة الجسد ونبرة الصوت تساعد على معرفة مدى استعداد الشخص للحوار، فإن بدا متحفزًا أو غاضبًا، كان الأفضل تأجيل النقاش حتى تهدأ النفوس. أما إذا كان متعاونًا ومتقبلًا، فالحوار حينها يكون مثمرًا ومريحًا للطرفين.


وتعد الكلمة الطيبة مفتاح القلوب، وهي أساس نجاح أي تواصل إنساني. فاختيار الألفاظ المناسبة يعكس وعي المتحدث واحترامه لمن يخاطبه، كما إن الكلمة اللينة قد تصل إلى القلب في لحظة، بينما الكلمة الجارحة قد تترك أثرًا لا يُمحى. 

لذلك وجب على الإنسان أن ينتقي كلماته كما ينتقي المرء أجمل الزهور، فيستخدم لغة مهذبة تراعي الفروق الثقافية والتعليمية والفكرية بين الناس.


فما يصلح أن يُقال في مجلس علمي قد لا يُفهم في مجلس عام، وما يُقال للطفل يختلف عن حديثنا مع العالم أو المسؤول.

 ومن هنا تتجلى روعة الحكمة النبوية في قول النبي ﷺ: "أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم."

فالحوار لا يقتصر على تبادل المعلومات فحسب، بل يمتد إلى البعد الإنساني والعاطفي. فحين نخاطب الآخرين علينا أن نراعي مشاعرهم وظروفهم النفسية والاجتماعية.

 فقد يكون الشخص الذي نحاوره يمر بضائقة أو معاناة، وحين نحاوره بلطف ورحمة نكون قد ساهمنا في تخفيف آلامه بدلًا من زيادتها، لأن مراعاة هذا البعد الإنساني يجعل من الحوار وسيلة للتقارب والتعاطف، لا ساحة صراع أو جدال والصدام.


وحين يسود الحوار الإيجابي في المجتمع، تتسع مساحات التفاهم وتقلّ النزاعات، ويشعر كل فرد أن صوته مسموع ورأيه محترم، كما إنّ الحوار البنّاء يولّد أفكارًا جديدة، ويقوّي الروابط الإنسانية، ويزيد من الوعي الجماعي، فالحوار المثمر ليس مجرد تبادل آراء، بل هو عملية لبناء الوعي المشترك وصناعة المستقبل.


أما في غياب الحوار، تسود الأنانية وسوء الفهم والتوتر، فتتفكك العلاقات بين الأفراد، ويضعف نسيج المجتمع. الصمت أو التجاهل في مواقف الخلاف لا يبني جسور التفاهم، بل يزيد من حالة الجفاء والخصام بين الاطراف.


ختاماً إنّ الحوار ليس رفاهية فكرية، بل هو ضرورة إنسانية نحتاجها في بيوتنا، في أماكن العمل، ومع الأصدقاء والجيران. 

فكم من خلافات أسرية كان يمكن حلها بكلمة طيبة، وكم من علاقات زمالة تحسنت بمجرد نقاش هادئ وصادق.


فلنجعل من الحوار أسلوب حياة، نمارسه باحترام وعقلانية، ونربي أبناءنا عليه. ولنُدرك أن الحوار الراقي هو علامة على تحضر الإنسان ونضجه الفكري والعاطفي.

 فإذا تعلمنا أن نخاطب الناس على قدر عقولهم، وأن نصغي بقدر ما نتكلم، فإننا نزرع السلام في قلوبنا وفي مجتمعاتنا.


وفي النهاية، يبقى الحوار البنّاء وسيلة لإشاعة المحبة، وتوطيد العلاقات، وبناء المجتمعات على أسس من التفاهم والاحترام. وإذا غاب الحوار الرصين، غابت معه الثقة والتواصل، وتفككت العلاقات الإنسانية.
فليكن شعارنا دائمًا: تحاور لتفهم، لا لتغلب فبهذا فقط نرتقي بأنفسنا وبمجتمعاتنا.

الرابط المختصر

search