السبت، 22 نوفمبر 2025

01:45 م

أحمد فاضل يكتب: ترامب وممداني بين الانكسار الخفي وانقلاب الموازين؟

السبت، 22 نوفمبر 2025 01:28 م

أحمد فاضل

أحمد فاضل

لم يكن المشهد عابرًا، ولا اللقاء عاديًا، ولا الابتسامات عفوية، فما جرى في المكتب البيضاوي في واشنطن بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وبين عمدة نيويورك المنتخب زهران ممداني، لم يكن مجرد اجتماع، بل اصطدام قوتين: سلطة مركزية متجذرة تملك مفاتيح الدولة، وقوة محلية صاعدة تمثل غضب مدينة بأكملها، نيويورك، قلب المال والسياسة، كانت شاهدة على لحظة حاسمة تعيد رسم نفوذها بعد انتخابات أيقظت أميركا من الأطراف إلى العمق. 
كل حركة، كل ابتسامة، كل صمت كان رسالة مدفونة، فالسياسة أحيانًا هي فن المواجهة الصامتة، حيث تختفي السكاكين خلف الضحكات، وتتحول التنازلات الظاهرية إلى تكتيكات للبقاء داخل اللعبة الكبرى.

وقوف ممداني بجوار ترامب ـ الرجل الذي هاجمه واتهمه بالتطرف ـ لم يكن مصالحة، بل اختبار من ينحني؟ ومن يثبت؟ ومن يخفي في ابتسامته خنجرا سياسيًا لا يُرى. اللقاء كان مصارعة هادئة، كل حركة محسوبة، التراجع السياسي لم يكن ضعفًا، بل تكتيكًا للبقاء داخل اللعبة. فلا أي مدينة، مهما كانت عظيمة، يمكنها الاصطدام المباشر مع كرسي القرار الفيدرالي.

هيمنة الصورة

منذ اللحظة التي ظهر فيها زهران ممداني واقفًا في المكتب البيضاوي إلى جوار دونالد ترامب ـ الرجل الذي صوّب نحوه كل سهام التشكيك والاتهام ـ كانت الحقيقة تتشكل بحدة: هذا ليس لقاء مجاملات، بل اختبار قوة، واستعراض سيادة، واعتراف غير معلن بأن نيويورك مهما هتفت لشعارات التغيير، فإن مفاتيحها ما زالت معلقة على بوابة البيت الأبيض.

اللقاء لم يكن مصالحة، ولا عناقًا سياسيًا، ولا بداية صداقة، بل كان لحظة سياسية عارية تكشف وزن الدولة، وهشاشة المدن، وذكاء اللاعبين حين يتحول الهجوم إلى تفاوض، والغضب إلى ابتسامة محسوبة.
ترامب لم يكتفِ باستقبال ممداني، بل حاول الهيمنة على المشهد بالكامل، وبدأ في توزيع الأدوار بحنكة: وصف ممداني بأنه «سيكون عمدة رائعًا»، نفى عنه صفة «الجهادية»، وأشاد بـ«عقلانيته» رغم أنه وصفه قبل أسابيع بأنه خطر على أمريكا ويمثل تهديدا لها، إن كل حركة وكل كلمة كانت تعبيرًا عن إعادة رسم خطوط القوة بين السلطة المركزية ومدينة نيويورك، ودرسًا صريحًا في كيفية إدارة الصورة والسيطرة على المشهد السياسي.
ولم يكن هذا ثناءً عاديًا، بل إعادة نحت العلاقة من جذورها. الصورة ـ رئيس جالس وعمدة منتخب واقف ـ كانت درسًا في ميزان القوة: ترامب يجلس ممثلًا للدولة، وممداني يمثل حاجة المدينة.

كمين الفاشية 
وسط الحشد وتحت ضوء الكاميرات، اخترقت الصمت صحفية بسؤال لم يكن استفسارًا… بل رصاصة سياسية:
«هل لا تزال عند موقفك حينما وصفت ترامب بالفاشي؟»

للحظة، تجمّد الهواء. السؤال كان فخًا علنيًا، اختبارًا للثبات، ومحاولة لجرّ ممداني إلى معركة مباشرة أمام عدسات العالم.
لكن المفاجأة لم تأتِ منه، بل من ترامب نفسه، الذي قطع الطريق بابتسامة واثقة وقال:
«لا بأس… يمكنك أن تقول نعم. ذلك أسهل من الشرح». كانت جملة تحمل دلالتين أن ترامب أراد أن يظهر بمظهر الرجل الذي لا تهزّه الإهانات، الرجل الذي يحوّل أكثر الاتهامات قسوة إلى مزحة، ليبدو متسامحًا بينما يسرق المشهد كله.
أما ممداني، فوقف بثبات لم يزحزحه السؤال ولا تعليق الرئيس. لم ينفِ، لم يعتذر، ولم يُجامل. ترك الصمت يتحدث عنه.
في تلك اللحظة، فهم الجميع أن هذا ليس سؤالًا صحفيًا، بل مبارزة سياسية حقيقية، ترامب يحوّل الطعنة إلى ضحكة، وممداني يحوّل الضحكة إلى موقف، والجملة الأخطر كانت تلك التي لم تُنطق.

التمويل الفيدرالي

من ظن أن ممداني تراجع، لا يعرف وزن نيويورك أو طبيعة السلطة فيها، الرجل ذهب ليحمي مصالح المدينة قبل أن يبدأ ولايته، وليس مستسلما، هو يعرف أن التمويل الفيدرالي سلاح رئيسي، ونشر الحرس الوطني تهديد مباشر، وملفات الهجرة يمكن أن تفجر المدينة أو تهدئها، وأن أي خطأ سيُحسب عليه وليس على الرئيس.

ذهب ولم ينحنِ، لم يعتذر، ولم يتراجع عن تصريحاته، وقف أمام ترامب كقائد يعرف أن المدينة خلفه، وأن معركة التضخم والجريمة أهم من معركة الكلمات، مع رجل جالس في المكتب البيضاوي.

اعتقال نتنياهو

القوة الحقيقية للزيارة لم تكن في المكان، بل في أن ممداني دخل المكتب البيضاوي متمسكًا بخطابه نفسه دون تراجع. قال: «إسرائيل حكومة إبادة جماعية، والولايات المتحدة تموّل هذه الحرب من جيوب دافعي الضرائب». وهذه ليست عبارة انتخابية، بل مواجهة مباشرة مع أقوى تحالف جيوسياسي في الولايات المتحدة. ومع ذلك، لم يسحب تصريحاته، ولم يخففها.

وعندما سُئل ترامب عن مناقشته ممداني خلال اجتماعهما قبيل المؤتمر الصحفي عن تصريحات العمدة باعتقال بنيامين نتنياهو رئيس وزراء إسرائيل، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية إذا زار نيويورك كانت إجابته باردة: «لم نناقش هذا الأمر».

ملف إسرائيل، إذن، بقي خارج طاولة النقاش. ممداني خرج كما دخل: ثابتًا، متشبثًا بخطابه، وكأنه يقول: «قد أمدّ يدي للتعاون… لكن لن أقطع لساني من أجل منصب». لقد ذهب إلى خصمه دون أن يترك شرفه السياسي على باب المكتب البيضاوي.

شد الحبال السياسية

لو كان لقاء ودّ، لكانت الإجابة بسيطة، لكنه كان حلبة شد حبال سياسية: ترامب انتصر بالصورة، وجعل خصمه يزور ويطلب التعاون، وممداني انتصر بالموقف، وأثبت أنه ليس خطيب شوارع، بل رجل دولة يعرف وزن كل خطوة. المدينة تراقب، والرهانات مرتفعة: من سيحقق نتائج ملموسة في مواجهة الملفات الفدرالية الحساسة؟

أمام الكاميرات، بدا ترامب وهو من نيويورك، وكأنه يعوّل على الديمقراطي البالغ 34 عامًا، إذ توقّع أن «يفاجئ بعض المحافظين». وعندما سُئل عن تصريحات سابقة لممداني وصفه فيها بأنه «مستبد»، قال ترامب ممازحًا: «لقد قيل عني أشياء أسوأ بكثير من مستبد. ليست إهانة كبيرة، ربما يغيّر رأيه.»

بداية المواجهة

كرسي ترامب ووقوف ممداني، الثناء المفاجئ والخلافات المكتومة، وعبارات «سأدعمه» و«لن نتفق على كل شيء»، كلها تشكل حقيقة واضحة: المعركة لم تبدأ بعد. هذا اللقاء ليس نهاية الخلاف، بل صفارة البداية في مباراة طويلة: هدنة باردة قبل اشتباك ساخن، وتقاطع مصالح قبل انفجار سياسي محتمل. ترامب يريد أن يبدو منقذًا للمدينة، وممداني يريد أن يحكم دون أن يبيع المبادئ.

فوق الطاولة ابتسامات، وتحت الطاولة حسابات، وبينهما مدينة نيويورك، التي تقف بين أقوى رجل في أميركا، وأجرأ عمدة منذ عقود، وفي النهاية، لا أحد انحنى، لكن الجميع فهم أن المرحلة المقبلة لن يحكمها الصراع وحده، بل الذكاء السياسي، والمناورة المحكمة، والقدرة على أن تبدو منتصرًا حتى وأنت تدخل بيت خصمك.

الرابط المختصر

search