الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

01:16 م

الباحث السوري حسين قنبر يكتب: تغول السلطة في الواقع السوري واستغلال العشائر

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 11:00 ص

الباحث السوري حسين قنبر

الباحث السوري حسين قنبر

تقوم الدولة الحديثة على مفهوم احتكار العنف، ضمن إطار الشرعية القانونية، بوصفه أداة لضبط العلاقات الاجتماعية، وحماية الحقوق العامة، وتحقيق الاستقرار. غير أنّ هذا الاحتكار يتشوّه عندما يُسخّر لخدمة السلطة السياسية بدل خدمة المجتمع، فتنقلب وظيفته من حماية المواطنين إلى إخضاعهم، ومن تحقيق الأمن إلى صناعة الخوف. وهنا يظهر ما يُعرف في العلوم السياسية بمفهوم إرهاب الدولة، حيث تمارس السلطة العنف الممنهج بشكل رسمي أو عبر وكلاء محليين، تحت غطاء القانون والمؤسسات، فتتحول الدولة نفسها إلى فاعل إرهابي.

في الشرق الأوسط، تتفاقم هذه الظاهرة بسبب هشاشة الدولة، وضعف المؤسسات المدنية، ووجود منظومات اجتماعية تقليدية مثل القبائل والعشائر. هذه البنى، رغم دورها التاريخي في حماية الجماعة، وتوفير التماسك الاجتماعي، لا تزال قائمة على منظومة قيمية وعقلية تعود إلى ما قبل العصر الحديث. فهي تقوم على مركزية الشيخ كسلطة عليا، وعلى الطاعة غير المشروطة، وعلى رابطة الدم والعصبية أكثر من القانون والعقد الاجتماعي. ولذلك، فإن توصيف هذه المنظومة بأنها “متخلفة فكريًا واجتماعيًا” هو توصيف سوسيولوجي، يشير إلى الفارق الكبير بين هذه البنى وبين الدولة الحديثة القائمة على المواطنة والمؤسسات والحقوق المتساوية.

البنية العقلية للعشائر، تجعلها بطبيعتها أكثر ميلًا للحفاظ على الامتيازات، واستمرار التسلسل الهرمي، وهو ما يتعارض مع منطق الدولة الحديثة، القائم على القانون والمؤسسات. فهي تعيد إنتاج السلطة الأبوية، وتحوّل الولاء للجماعة إلى أداة للمحافظة على النفوذ، ولا تولي الفرد كونه مواطنًا مستقلًا. هذا النمط يجعلها سهلة الاستخدام من قبل السلطة السياسية، لتثبيت سيطرتها عبر وكلاء محليين، ما يضمن لها الوصول السريع إلى المجتمع دون المرور بالقنوات المؤسساتية المدنية.

وفي الحالة السورية، اعتمدت السلطة على شبكة من الزعماء العشائريين، ومنحتهم امتيازات سياسية واقتصادية لضمان الولاء، فصارت القبيلة جزءًا من آليات السيطرة، وليس مجرد مكوّن اجتماعي. وعندما اندلعت الاحتجاجات عام 2011، تحولت هذه البنى إلى أدوات قمع موازية للأجهزة الأمنية، وظهرت ميليشيات عشائرية محلية تمارس العنف نيابة عن الدولة، مما أدى إلى اختلاط إرهاب الدولة بالعنف الأهلي، وتكامل دوره في إخضاع المجتمع.

ومع ظهور الإدارة الجديدة برئاسة أحمد الشرع، بدا أن نمط الحكم ذاته يُعاد إنتاجه، رغم الخطاب الإصلاحي. فقد لجأت الإدارة إلى استثمار البنى العشائرية في مناطق الساحل والسويداء و حمص، حيث تم تفويض زعامات عشائرية بمهام أمنية وشبه أمنية. وقد أدى هذا التفويض إلى ظهور ممارسات عنيفة اتخذت طابعًا عشائريًا مسلحًا، شملت عمليات اعتقال وملاحقة وتصفية، تستهدف خصومًا سياسيين أو اجتماعيين. وبهذا، تحولت بعض العشائر للمرة الثانية في تاريخ سوريا الحديث إلى أدوات نفوذ وسيطرة، لا إلى أطر اجتماعية طبيعية، فيما أعادت الإدارة إنتاج البنية السلطوية السابقة من خلال وكلاء محليين يمارسون إرهاب الدولة.

إن استمرار المنظومة العشائرية بالعقلية التقليدية، المبنية على الولاء والطاعة والعصبية والتمسك بالأعراف القديمة، يجعلها غير قادرة على إنتاج مؤسسات الدولة الحديثة، أو فضاء سياسي ديمقراطي. واستخدامها سياسياً يعيد إنتاج نموذج سلطة ما قبل الدولة، يخلط بين الولاء الفردي وبين المصلحة الجماعية، ويحوّل القانون إلى واجهة تبرير للعنف بدل الحد منه.

وقد ترتب على هذا الواقع آثار مدمرة: تآكل مفهوم الدولة المدنية، تفكك الروابط الوطنية، إعادة تسييس العشيرة بشكل خطير، شيوع اقتصاديات الحرب، وتراجع سيادة القانون. وعندما يصبح الولاء معيارًا للحقوق، ويُستخدم الأمن ذريعة للقمع، تفقد الدولة جوهرها بوصفها مؤسسة حماية، وتتحول إلى جهاز سلطوي يعتمد على الخوف لا الشرعية.

إن تجاوز إرهاب الدولة في سوريا والشرق الأوسط، يتطلب إعادة تعريف وظيفة الدولة، وإخضاع الأجهزة الأمنية للقانون، وبناء مؤسسات حكم محلي مدنية، وتعزيز القضاء المستقل، وإزالة السلاح من الفاعلين غير الرسميين. كما يجب إعادة دمج البنى العشائرية في إطار الدولة الحديثة، بوصفها مكونات اجتماعية محترمة ثقافيًا، لا أدوات قمع أو وسطاء سياسيين. ويجب أن يصاحب هذا الإصلاح، مشروع عدالة انتقالية يكشف الانتهاكات ويحاسب مرتكبيها، ويعيد الثقة بين المجتمع والدولة. فإعادة بناء الدولة لا يمر عبر استبدال سلطة بأخرى، بل عبر تفكيك البنية السلطوية الهجينة، التي تجمع بين منطق الدولة ومنطق القبيلة، وفرض سلطة القانون على العنف والولاءات التقليدية.

إن بناء دولة قانون حقيقية في سوريا، لن يتحقق إلا بإعادة الاعتبار للمواطنة، باعتبارها الرابط الأساسي بين الفرد والدولة، وبإنهاء دور العشيرة كأداة سياسية، وبتحويل مؤسسات الدولة إلى مؤسسات خدمة لا إخضاع. وحده هذا التحول قادر على كسر الحلقة التاريخية لإرهاب الدولة، ودفع المجتمع نحو أفق أكثر استقرارًا وعدالة وحرية.

  • مدير مركز دراسات الشرق للسلام

الرابط المختصر

search