الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

11:03 م

د. مصطفى طاهر رضوان يكتب: أعيدوا النظر في السن القانونية لتطبيق الأحكام

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 08:47 م

  د. مصطفى طاهر رضوان

د. مصطفى طاهر رضوان

لقد تكرَّرت المآسي حتى كادت أن تفقدنا القدرة على الدهشة؛ مآسٍ يرتكبها من يُسمَّون صغار السن أو غير البالغين، لكنها جرائم لا تمتُّ للطفولة بصلة، بل هي أفعالُ وحوشٍ كاسرة خرجت من أقفاص الإهمال، ومن غابات التفكك الأسري وسوء التربية... آخرها ما شهدته مدينة الإسماعيلية من جريمة مروِّعة ذهب ضحيتها طالبٌ صغير لا ذنب له، قتله زميلُه بدمٍ بارد وبطريقة لا يعرفها إلا القتلة المتمرِّسون، ثم مزَّق جسده إربًا كما يفعل السفَّاحون الكبار... وقبل أن يجف دمُ هذا الصغير الممثَل بجثته، فوجئنا بمأساةٍ لا تقل إيلامًا: طفلةٌ تُساق إلى حمَّام السباحة لتلهو كباقي الأطفال، فإذا بوحشٍ يتحرش بها ثم يغرقها تحت الماء ليُسكت صراخها إلى الأبد.

ومع ذلك… لا يزال القانون يعامل هؤلاء المجرمين معاملة الأطفال، ويُنزِل بهم عقوباتٍ هزيلة لا تليق ببشاعة أفعالهم، بحجة أنهم دون سن البلوغ! فأي عدالةٍ هذه؟ وأي عقلٍ يقبل أن تُزهق الأرواح وتتقطَّع الأشلاء ثم نكتفي بعقوبات هزيلة؟!

إن هذه الوقائع المفزعة تُحتِّم على فقهاء الشريعة، ورجال التشريع، وعلماء القانون المصري أن يقفوا وقفة صدق مع أنفسهم، وأن يعيدوا النظر في سؤالٍ مفصلي:
هل يجوز إعادة تقييم سن البلوغ؟ وهل يمكن تخفيضه بما يناسب طبيعة الجيل الحالي وواقعه؟

والأعجب قبل الجواب عن هذا السؤال ـ بل الأشد إثارة للريبة ـ هذا التمسُّك الغريب بتثبيت سنِّ البلوغ عند الثامنة عشرة، كأنها آية مُحكمة لا تقبل التغيير! أهو تقليدٌ أعمى لقوانين غربية لا تعرف مجتمعنا ولا تعي اختلافاتنا؟ أم هو جمودٌ لا يليق بشريعةٍ جعلت الاجتهاد بابًا مفتوحًا ما دامت الحياة تتغير؟

والفقه الإسلامي ـ بحمد الله ـ غني بنظرياتٍ متعددة حول سنِّ البلوغ:

فهناك طائفة من الفقهاء جعلت البلوغ بالاحتلام،
وهم جمهور كبير من الفقهاء، حكى الإجماع على رأيهم ابن داود الظاهري وابن المنذر وابن قدامة، ورأوا أن الاحتلام أمارة البلوغ شرعًا، بلا نظرٍ إلى السن. 
ويقينًا: الأولاد والفتيات اليوم يبلغون الاحتلام في الثالثة عشرة، وربما قبلها، بل الطب الحديث قادرٌ على إثبات ذلك بدقة.

الطائفة الثانية من الفقهاء: حدَّدت البلوغ بأربع عشرة أو خمس عشرة سنة،
وهو مذهب طائفة معتبرة من الفقهاء، ومنهم بعض الأحناف، ورجَّحه الصنعاني والشوكاني وغيرهم.

الطائفة الثالثة من الفقهاء: ربطت البلوغ بالعلامات الجسدية،
وأهمها إنبات شعر العانة، وهو ما فعله النبي ﷺ في أسرى بني قريظة المقاتلين؛ فمن أنبت عنده شعر العانة قُتِل لبلوغه، ومن لم يُنبت لم يُقتل، وهو مذهب المالكية والحنابلة وأبي يوسف من الأحناف وابن حزم.

الطائفة الرابعة من الفقهاء: جعلت البلوغ مناطه العقل والإدراك؛
لأن العقل هو أصل التكليف وروحه، فإذا كان الصبيُّ عاقلًا، مدركًا لأفعاله، قادرًا على التمييز بين الخير والشر، فقد بلغ وإن لم يحتلم، وهذا رأي الإمام الكاساني وغيره، وهو في زماننا أقرب للواقع وأوفق للنظر.

وهذه القضية برمَّتها ـ تحديد سنِّ البلوغ ـ قضية اجتهادية، مرنة، قابلة للتغيير، لا تتعارض مع مقاصد الشريعة، ويمكن تغييرها؛ لأنها تُبنى على المصلحة والواقع وظروف الزمان.

وبعد دراسة ـ قمتُ بها ـ وتتبعٍ لأقوال العلماء وأدلتهم، وآراء علماء الاجتماع وغيرهم، وصلتُ إلى نتيجةٍ أرى أنها أقرب للصواب، وسأعرضها على أساتذتي من الفقهاء قبل نشرها تفصيلًا بإذن الله، وهي:

((كلُّ من يَعِي حقيقة الفعل الذي ارتكبه، ويُدرِك عواقبه ويدرك أنه جريمة محرَّمة قانونًا وشرعًا، فهو مستحقٌّ للعقوبة مهما كان سنُّه)).

فالصبي الذي تتحرك شهوته حتى يبلغ حدَّ التحرش والفعل الجنسي ليس طفلًا بريئًا، بل بلغ من النضج النفسي حدًّا يجعله مسؤولًا عن فعله، ولو كان دون الثانية عشرة.
والصبيُّ الذي يخطِّط للجريمة، ويتواصل مع منصَّات داعمة للعنف، ثم يُنفِّذ بدقة بالغة لا يملكها كثيرٌ من البالغين؛ فهذا ليس قاصرًا، ولا ساذجًا، بل بالغٌ مميِّز، عاقل، مدرك، يعرف تمامًا معنى القتل والتمثيل بالجثث، ويعرف العاقبة، ومع ذلك يُقدم على جريمته؛ فكيف ـ بالله عليكم ـ نُبرِّئه من المسؤولية؟! بل كيف لا يُقام عليه الحد والقصاص؟!

ومن هذا المنطلق، فإنِّي أرفع صوتي عاليًا، وأوجِّه ندائي إلى:

الأزهر الشريف، والمجامع الفقهية، ودار الإفتاء المصرية
بأن يعيدوا بحث هذه القضية بعمقٍ ومسؤولية، وأن يعلنوا كلمة الحق التي تنتظرها الأمة. فإذا انتهوا إلى ما انتهيتُ إليه، فلابد أن تُرفع توصياتهم إلى الجهات التشريعية فورًا.

كما أناشد القانونيين والمشرعين أن يتخلَّصوا من أسر القوانين المستوردة، وأن يعيدوا النظر في مسألة تحديد السنِّ الجنائي، وأن يناقشوا بشجاعة مسألة الاقتصاص من صغار السن الذين اكتمل إدراكهم ووعيهم، في زمنٍ يعرف فيه الطفل من الشرور ما لم يكن يعرفه كبار الأمس.

فالأمن لا يُحمى بالعاطفة، والعدالة لا تُصان بالخشية من المنظمات الدولية التي ترعى القوانين الوضعية، ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب…
وأرواح الأطفال التي تُزهق كل يوم أمانة في أعناقكم جميعًا.

الرابط المختصر

search