الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025

03:16 ص

الذهب كملاذ آمن: كيف يحميك من التضخم والأزمات الاقتصادية

الثلاثاء، 02 ديسمبر 2025 02:42 ص

باسم ياسر

مشغولات ذهبية

مشغولات ذهبية

منذ أن تعرّف الإنسان على المعادن وميّز بينها، ظل الذهب هو الأكثر هيبةً وتأثيراً، ليس فقط كعنصر ثمين يخطف الأبصار، بل كأداة ادّخار وركيزة اقتصادية ارتبطت بها قصص حضارات بأكملها. 

ورغم التحوّلات الاقتصادية الكبرى، والتطور الهائل في الأدوات المالية الحديثة، لا يزال الذهب محافظًا على مكانته كأحد أكثر الأصول أمانًا وموثوقية.

فهو لا يتآكل، ولا يفقد بريقه، ولا يخضع لسلطة دولة أو حكومة، ولا يمكن طباعته أو التلاعب بكمياته.

ولأن العالم يعيش اليوم واحدة من أكثر الفترات اضطرابًا من حيث التضخم، والسياسات النقدية المتباينة، وغياب الاستقرار الجيوسياسي، يعود الذهب إلى الواجهة بقوة، بوصفه "الخيار الأخير" لحماية الثروة، خصوصًا مع تراجع ثقة المستثمرين في العملات الورقية والأصول عالية المخاطر.

في هذا التقرير التحليلي الممتد، نستعرض فى "المصرى الآن" جذور ارتباط الذهب بالأمان المالي، ونحلل العوامل التي تتحكم في أسعاره، ونلقي الضوء على دوره في استراتيجيات البنوك المركزية، إضافة إلى مقارنة بين طرق الاستثمار المختلفة فيه، والمزايا الضريبية التي تجعل الذهب خيارًا أكثر جاذبية في عدد من الدول.

 الذهب.. ذاكرة الحضارات ومرآة الاستقرار المالي

 

 من كنوز الملوك إلى خزائن البنوك المركزية

لا يوجد معدن ارتبط بالبشرية مثل الذهب، فمن أهرامات الجيزة إلى خزائن أوروبا الملكية واحتياطيات الولايات المتحدة، ظل الذهب رمزًا للثروة والسلطة، وليس سرًا أن أولى العملات المعدنية في التاريخ صُنعت من الذهب، وأن الممالك كانت تقيس قوتها بما تمتلكه منه.

هذا الحضور التاريخي لم يكن رفاهية أو صدفة، فمع انهيار إمبراطوريات واندثار عملات وتعاقب أنظمة اقتصادية، بقي الذهب ثابتًا، لا يفقد بريقه ولا قيمته، وهذا هو جوهر فكرة "الملاذ الآمن": أصلٌ يستطيع النجاة من الزمن والأزمات.

 ندرة الذهب.. سر قيمته التي لا تُقهر

 

من بين أهم أسباب صلابة الذهب في السوق أنه معدن نادر بطبيعته، كمياته محدودة، واستخراجه يتطلب عمليات تنقيب معقدة ومكلفة، ورواسبه القابلة للتعدين في تناقص مستمر، ومع أنه يمكن إعادة تدويره، إلا أن إجمالي المخزون العالمي منه لا ينمو إلا ببطء شديد.

وهذه الندرة تخلق قاعدة اقتصادية بسيطة:

كلما زاد الطلب على شيء نادر، ارتفعت قيمته.

لو اكتُشفت رواسب ضخمة وسهلة الاستخراج فجأة، ربما كان الذهب فقد جزءًا من قيمته، لكن استمرار شحّه يعزّز مكانته ويجعله أصلًا استثنائيًا لا يمكن استبداله.

 الذهب وقت الأزمات.. لماذا يهرب إليه المستثمرون؟

 

 استقرار يتخطى تقلبات الاقتصاد العالمي

تكشف التجارب التاريخية عن حقيقة مهمة:

عندما تشتد الأزمات، يتجه المستثمرون مباشرة إلى الذهب.

وفي الأزمة المالية العالمية عام 2008، ومع الانهيارات المتتابعة في أسواق الأسهم والعقارات، ارتفع سعر الذهب بوتيرة قياسية، فالمستثمرون كانوا يبحثون عن ملاذ بعيد عن التعثرات البنكية والخسائر السريعة.

ما يميز الذهب في هذه اللحظات أنه أصل لا يعتمد على أرباح شركة أو سياسات حوكمة، ولا يرتبط بعملة واحدة. إنه سلعة عالمية، سعرها يُقيّم في كل الدول بنفس المنطق، وتتوارثها الأجيال كقيمة مضمونة.

 التحوّط من التضخم وتآكل القوة الشرائية للعملات

 

حين ترتفع معدلات التضخم، تنخفض قيمة العملات. ما تشتريه اليوم بمبلغ معين قد لا يمكنك شراؤه غدًا بنفس القيمة. وهنا يأتي دور الذهب كـ"درع مالي".

فعلى مدى عقود طويلة، أثبت الذهب أنه قادر على الاحتفاظ بقيمته الشرائية، بل وتجاوزها أحيانًا، وفي كثير من البلدان التي شهدت انهيارات للعملة، كان الذهب هو الأصل الوحيد الذي أنقذ ثروات المدخرين.

خلال أزمة 2008، ومع موجة طباعة الأموال الضخمة، قفز الذهب بصورة لافتة، وتكرر الأمر بعد جائحة كورونا، عندما لجأت بنوك مركزية عدة إلى سياسات نقدية توسعية.

وهذه العلاقة بين التضخم والذهب ليست مؤقتة؛ إنها نمط ثابت عبر التاريخ.

 أداة مثالية لتقليل مخاطر المحافظ الاستثمارية

تنويع الأصول هو القاعدة الذهبية في عالم الاستثمار:

لا تضع كل البيض في سلة واحدة.

الذهب يلعب هنا دورًا محوريًا، لأن حركته في العادة تختلف عن حركة الأسهم والسندات، فعندما تنهار الأسواق، يميل الذهب للصعود أو الثبات. 

وبالتالي يساهم في تخفيف تقلبات المحفظة ويمنح المستثمر قدرًا أكبر من الأمان.

ولا يقتصر دوره على المستثمرين الكبار؛ فحتى صغار المدخرين يمكنهم اعتماد الذهب لبناء أساس مالي أكثر ثباتًا.

القوى التي تحكم سعر الذهب عالميًا

 

سعر الذهب ليس حركة عشوائية، بل هو نتيجة معادلة معقدة يتداخل فيها الاقتصاد والسياسة والمال. ويمكن تلخيص أهم العوامل المؤثرة فيما يلي:

 أولًا: العرض والطلب العالميان

 

يمثل التعدين المصدر الرئيسي لزيادة العرض، لكنه لا ينمو إلا بمعدلات ضئيلة. أما الطلب فيأتي من أربعة قطاعات رئيسية:

1. المجوهرات: وهي أكبر مستهلك للذهب، خصوصًا في الهند والشرق الأوسط.

2. البنوك المركزية: التي تشتري الذهب لتعزيز احتياطياتها وتقليل الاعتماد على الدولار.

3. الاستثمار الخاص: سواء عبر السبائك أو العملات أو الصناديق المتداولة.

4. الاستخدامات الصناعية: خصوصًا في الإلكترونيات والطب والتكنولوجيا المتقدمة.

أي تغير في هذه المكونات يمكن أن يدفع الأسعار للارتفاع أو الهبوط.

 ثانيًا: سياسات البنوك المركزية وأسعار الفائدة

 

عندما تخفض البنوك المركزية أسعار الفائدة، يصبح الذهب أكثر جاذبية لأنه لا يوفر عائدًا ثابتًا. والعكس صحيح. كما أن مشتريات البنوك من الذهب تعد مؤشرًا مهمًا على توقعاتها المستقبلية.

خلال السنوات الأخيرة، زادت عدة دول – وعلى رأسها الصين وروسيا وتركيا – مشترياتها من الذهب لتعزيز استقلالها النقدي.

 ثالثًا: التوترات الجيوسياسية

 

الذهب هو الأصل الأكثر حساسية للأزمات الحادة:

حروب، صراعات، انتخابات حاسمة، توترات اقتصادية، عقوبات…

كل ذلك يدفع المستثمرين إلى الاحتماء بالذهب، ما يرفع الطلب والأسعار.

ولهذا يُنظر إلى الذهب باعتباره مؤشرًا مباشرًا لمدى خوف المستثمرين من المستقبل.

 الذهب داخل المؤسسات المالية.. رهانات الدول الكبرى

 

 البنوك المركزية.. خزائن من الذهب لحماية الاقتصادات

لا تحتفظ البنوك المركزية بالذهب لمجرد الوجاهة، بل لأنه أصل استراتيجي يحفظ الاستقرار النقدي.

فالذهب يساعد على:

 تعزيز ثقة الأسواق في عملة الدولة

 حماية الاحتياطي من تقلبات الدولار

 توفير أمان عند الأزمات المالية

 دعم الموقف الائتماني للدولة

وخلال العقدين الماضيين، عادت البنوك المركزية في العالم إلى زيادة احتياطياتها الذهبية بعد سنوات من التخلي عنه.

اليوم، تمتلك البنوك المركزية أكثر من 28.5 ألف طن من الذهب، أي نحو ربع إجمالي الذهب المُستخرج تاريخيًا.

 قوة الدول تُقاس أحيانًا بما تملكه من ذهب

 

لا تزال بعض الدول – وعلى رأسها الولايات المتحدة – تعتمد على احتياطيات ضخمة من الذهب لتعزيز مكانتها في النظام المالي العالمي. وفي ظل هشاشة بعض العملات، يعتبر الذهب الضمان الأخير للقوة الاقتصادية.

ورغم انتهاء عصر "معيار الذهب" الذي ربط العملات بقيم محددة من الذهب، إلا أن دوره لم يقلّ أهمية، بل أصبح أكثر عمقًا ضمن استراتيجيات الاستقرار النقدي.

 طرق الاستثمار في الذهب… من السبائك إلى العملات

 

 أولًا: سبائك الذهب.. الأداة الأكثر نقاءً واستقرارًا

 

تُعد السبائك الخيار الأكثر شيوعًا بين المستثمرين الجادين. فهي:

 نقية بنسبة عالية

 سهلة البيع والشراء

 مرتبطة مباشرة بالسعر العالمي

 متوفرة بأحجام متنوعة من 1 جرام إلى كيلوجرامات

ومع زيادة وزن السبيكة، تنخفض "العمولة" أو الفارق بين البيع والشراء، ما يجعل السبائك الكبيرة خيارًا أوفر للمستثمرين.

 ثانيًا: العملات الذهبية.. قيمة تاريخية وسيولة عالية

 

تتميز العملات بأنها تحمل قيمة إضافية بجانب قيمتها المعدنية، مثل الندرة أو التاريخ. ومن أشهرها:

 عملات الماريان الفرنسية

 السوفرين البريطاني

 الهندي الأمريكي 10 دولارات

 السنتناريو المكسيكي 50 بيزو

هذه العملات يسهل تداولها وتتميز بسيولة أكبر لأنها معروفة لمجتمعات المستثمرين وهواة الجمع.

 ثالثًا: إمكانية الاستثمار للجميع… ذهب يبدأ من 1 جرام

 

لم يعد الاستثمار في الذهب مقتصرًا على أصحاب الثروات.

فسبائك صغيرة بوزن:

 1 جرام

 2 جرام

 5 جرام

تسمح للمدخرين بالبدء بمبالغ بسيطة وبناء ثروة ذهبية مع الوقت.

المزايا الضريبية… الذهب ليس أصلًا آمنًا فقط بل ذكيًّا أيضًا

 

في عدد من الدول، وعلى رأسها فرنسا، يحصل الذهب على معاملة ضريبية تفضيلية تجعل الاستثمار فيه أكثر جاذبية.

 أبرز هذه المزايا:

 1. إعفاء كامل من ضريبة القيمة المضافة

عند شراء الذهب المادي – سبائك أو عملات معترف بها – لا تُفرض ضريبة القيمة المضافة.

وهذا يعني أن مشتري الذهب يوفر مباشرة نحو 20% مقارنة بشراء سلع أخرى.

تخيّل شراء ذهب بـ10,000 يورو دون دفع ضريبة مضافة؛ هذه ميزة تمنح الذهب تفوقًا واضحًا على باقي المعادن.

 2. مزايا عند إعادة البيع

وفقًا للقوانين في بعض الدول الأوروبية، يخضع الذهب عند البيع لضريبة الأرباح فقط، وليس على القيمة الإجمالية، مما يجعل التعامل به أكثر مرونة وربحية.

 لماذا سيظل الذهب ركيزة أساسية للاستثمار؟

 

بعد تحليل كل هذه الجوانب – التاريخية والاقتصادية والمالية – يمكن الجزم بأن الذهب سيبقى أصلًا مركزيًا في المحافظ الاستثمارية، لعدة أسباب:

 ندرته الطبيعية واقتراب العالم من ذروة الإنتاج

 قدرته على الصمود أمام الأزمات والتضخم

 دوره الاستراتيجي لدى البنوك المركزية

 تنوّع أشكال الاستثمار فيه

 معاملته الضريبية المميزة في بعض الدول

ومع استمرار الاضطرابات العالمية وارتفاع مستويات الدين العام وتراجع الثقة في العملات الورقية، يتجه الذهب ليصبح ليس مجرد ملاذ آمن، بل ركيزة أساسية لحماية الثروة.

فالذهب ليس مجرد معدن؛ إنه سياسة مالية، وأداة حرب اقتصادية، ومستودع قيمة، وجزء من ذاكرة الإنسانية الاقتصادية.

إقرأ أيضًا:

كل ما تريد أن تعرفه عن صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب (Gold ETFs)

كيف تبدأ الاستثمار في الذهب؟ دليل المبتدئين 2026

سبائك الذهب أم المشغولات الذهبية: أيهما أفضل للاستثمار؟


 


 


 

الرابط المختصر

search