السبت، 26 يوليو 2025

01:07 ص

محمد مطش يكتب: الانتماء يصنع الفرق.. والهوية تصنع المستقبل

الخميس، 24 يوليو 2025 06:51 م

محمد مطش

محمد مطش

في عالم يزداد فيه التشتت الثقافي والانفتاح اللامحدود عبر وسائل الإعلام والتكنولوجيا ومع التطور الهائل في استخدام وسائل التواصل والمنصات الرقمية، تبرز الحاجة الملحة للعودة إلى الجذور، وإعادة التمسك بما يشكّل الذات الجمعية والفردية، أي الهوية والانتماء، فهما ليسا مجرد مفردتين لغويتين تُتداولان في المحافل الفكرية والمنتديات الثقافية فحسب، بل يمثلان جوهر الإنسان وكيانه، وأساس استقراره النفسي والاجتماعي، وركيزة نهوض المجتمعات وتماسكها.

حيث تعرف الهوية على انها مجموعة الصفات والخصائص التي تميز فردًا أو جماعة عن غيرها، وتشمل اللغة، الدين، التقاليد، القيم، والانتماء الثقافي والحضاري. إنها بطاقة التعريف الأولى التي تقول من نحن، ومن أين أتينا، وماذا نمثل. أما الانتماء، فهو الشعور العميق بالارتباط بشيء ما، سواء كان وطنًا، دينًا، ثقافةً، جماعة، أو حتى فكرة. وهو ما يدفع الفرد للدفاع عنه، والاعتزاز به، والعمل من أجل رفعته واستمراريته والسعي الدائم على تجديده والبقاء عليه. فالهويتان الشخصية والوطنية تتكاملان داخل الفرد؛ فكما أن لكل إنسان بصمته البيولوجية، فإن له أيضًا بصمته الثقافية والاجتماعية التي لا تتكرر، والتي تميّزه كابن لمجتمعه ووطنه.

وقد أصبح من الضروري أن يبدأ ترسيخ مفهومي الهوية والانتماء منذ الصغر، فالطفولة هي المرحلة التي تتشكل فيها القيم والمفاهيم الراسخة التي تلازم الإنسان طوال حياته. مثل غرس حب الوطن، والفخر بالانتماء إليه، وتعليم الأطفال تاريخه، وأمجاده، وتراثه كما يعزز شعورهم بالأمان والانتماء، ويدفعهم للتمسك بهويتهم حتى في وجه العولمة والتيارات الثقافية الدخيلة.

وتلعب كل من الأسرة والمدرسة دورًا أساسيًا في هذا البناء القيمي؛ من خلال التعليم، سرد القصص الوطنية، المشاركة في الفعاليات المجتمعية، وتعليم اللغة الأم بشكل سليم، كما أن الإعلام ومواقع التواصل يجب أن تتحمل مسئولية دعم هذه القيم وضرورة الحفاظ عليها والعمل على تطويرها بما يتماشى مع روح العصر لا تمييعها او تجاهلها. وعندما يشعر الفرد بالانتماء إلى وطنه وهويته، يصبح أكثر توازنًا، ويمتلك حسًا بالمسؤولية تجاه مجتمعه، فتنعكس هذه المشاعر إيجابيًا على سلوكه، فيحرص على الإنتاج، والإبداع، والمشاركة الفعّالة في الحياة العامة. كما يكون أكثر استعدادًا للتضحية في سبيل وطنه، والذود عنه في المحن. فالمجتمع الذي يتمتع أفراده بهوية راسخة وانتماء عميق، هو مجتمع متماسك، متجانس، قادر على العطاء، متسلّح ضد التفكك والتطرف والغلو. فالهوية الوطنية تشكّل الحصن الأول في وجه محاولات التفتيت والتغريب، والانتماء يحمي الأفراد من الانجراف نحو التيارات الهدامة وشعارات الهدم والتخريب.

على الجانب الآخر فإن غياب الهوية، وضعف الانتماء، يخلّف آثارًا كارثية على الفرد والمجتمع. فالفرد الذي لا يشعر بالانتماء، يعيش حالة اغتراب داخلي، ويبحث عن ذاته في أماكن أخرى، ما يجعله فريسة سهلة للتطرف أو الهجرة غير المشروعة أو الانهزام الثقافي. كما ان المجتمع الذي يفتقر إلى الهوية الجامعة، فيكون هشًا، مفتّتًا، تغزوه الثقافات الأجنبية بلا مقاومة، وتتفشى فيه النزاعات الطائفية والعرقية، وتتآكل فيه الروابط الاجتماعية. مثل هذا المجتمع يصبح عاجزًا عن مواجهة الأزمات، وتتعثر فيه التنمية، وتضعف فيه روح التضامن والتكافل.لذا وفى ظل التحديات العصرية والتطور التكنولوجي السريع ورغبة الأجيال الجديدة في اللحاق بكل ما هو جديد ومتطور، فإننا أصبحنا بحاجة إلى خطاب وطني وثقافي متجدد، يعيد الاعتبار لمفهوم الهوية والانتماء، ويعمل على نقله من جيل إلى آخر بوعي ومعرفة. علينا أن نربّي أبناءنا على الاعتزاز بلغتهم، واحترام تراثهم، ومعرفة تاريخهم، وفي الوقت ذاته نفتح أمامهم آفاق الانفتاح على العالم من منطلق الثقة بالذات لا الذوبان.

نحن بحاجة إلى أن ندرك أن قوة الأمم لا تقاس فقط بمقدراتها الاقتصادية أو العسكرية، بل بمدى تماسك نسيجها الاجتماعي والثقافي، وبمدى إيمان أبنائها بهويتهم وانتمائهم. فالمجتمع المتماسك من الداخل، هو وحده القادر على الصمود أمام العواصف، وتحقيق الإنجازات، وصنع المستقبل. فالهوية والانتماء ليسوا مجرد شعارات، بل سلوك وممارسة يومية، تبدأ من البيت، وتُعزّز في المدرسة، وتُصان عبر الإعلام، وتُترجم في مواقف المواطن. إنها مسؤولية جماعية، إن أُهملت، كان الثمن باهظًا وكبيراً.

search