هشام المغربي يكتب عن أنيس منصور الذي لا نعرفه
السبت، 18 أكتوبر 2025 07:11 م

هشام المغربي
((حكيت وبكيت )).. هكذا كتب أنيس منصور في مذكراته التي لم تنشر والتي عهد بها إلى صديقه الصدوق د.مجدي العفيفي الذي عكف على كتابة مؤلف يقع في 550 صفحة تقريبا من القطع الكبير بعنوان (آخر 200 يوم مع أنيس منصور) فقد حكى وبكى وأبكانا معه تذخر المذكرات بالكثير الذي لا نعرفه عن حياته وأزماته وأفراحه وأتراحه رغم أن أنيس كتب بعض من مذكراته في بعض مؤلفاته مثل (إلا قليلا ) و (طلع البدر علينا) و ( البقية في حياتي ) و(صندوقي الأسود ) إلا أن ما كتبه في هذه الأوراق التي نشرها د. العفيفي جديدة لم يذكرها قبل ذلك.
دائماً ما نجد اختيار عناوين كتب أنيس منصور تجمع بين الفصحى والعامية بشكل يصعب معه فصل أي منهما عن الآخر فهما متلازمتان بشكل لا يقدر عليه سوى أنيس منصور وأذكر أن قرأت رأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في أسلوب أنيس منصور فقال أنه لا يتكلف الفصحى ولا يتعمد العامية وهو أقدر كاتب يجعل الصعب سهلاً والسهل بديعاً وهو كاتب استطاع أن يجعل قلمه فرشاة ترسم بكل لون وبكل درجة لونية.
وعند تطبيق ماقاله العميد عنه سنجد مثلاً عندما كتب (وجع في قلب إسرائيل) فكان العنوان يشرح حال الكيان الإسرائيلي وللوهلة الأولى قد يتصور القارىء أن الكاتب يدعوا على الكيان بالوجع فالمعروف أن هذا الدعاء الذي تردده بعض السيدات عند غضبهن من شخص ما (جاك وجع في قلبك) أو (جاتك وجع ) فهي من المنظور الشعبي دعاء على شخص ما ولكنه قصد وصف حالة إسرائيل أو ربما قصد المعنيين معاً!
فهو يحول أدق النظريات الفلسفية وأصعبها إلى مفاهيم بسيطة يفهمها أبسط الناس ثقافة وفهماً, هذا هو أنيس منصور يترك القارىء يبحث عن المعنى الذي قصده, وهكذا كانت معظم كتبه فالعنوان هو بطل العمل أولاً وثانياً وكانت هذه سمة من سمات أنيس فالكتاب أي كتاب له هو صورة تعبيرية عن حاله وحالنا معه فربما دراسته للفلسفة قد جعلت منه هذا المثقف الذي يتغلغل في أعماق النفس البشرية ويراها من الداخل كما لم يراها أحد وينطبق ذلك عليه هو شخصياً فمذكراته (حكيت وبكيتً) تشرح ما قصدت بذلك.
في تلك الأوراق أو المذكرات كان قد عنونها أولاً باسم (عزيزي فريد) ويقصد اللواء فريد حجاج صديقه المقرب وشقيق زوجته بعد ذلك وقدعرفه قبل معرفته بالسيدة رجاء زوجته وكانت مفاجأة لهما معاً أن (فريد شقيق رجاء ) فكتب المذكرات باسمه ثم اختار لها عنواناً آخر في آخر لحظة باسم ( حكيت وبكيت ).
كتب أنيس عن أول حب حقيقي في حياته في سياق رحلته الصحفية الشهيرة (حول العالم في 200 يوم ) ما بين عامي 1957 و1958 أي قبل زواجه بخمسة أعوام وكانت لفتاة إيطالية أحبها حباً ملك عليه نفسه ولكن كان للقدر رأي آخر ولم تبلغ تلك التجربة نهايتها فانتزع الموت هذه الفتاة الجميلة التي أحبها أنيس فبكاها بكاءً مراً وحزن عليها وعلى فراقها كما لم يحزن من قبل فكتب لصديقه فريد قائلاً :
آه يافريد تذكرت تلك السنوات وبكيت طويلاً آه من تلك الأيام كان كل شيء قريباً.. نتذكر ونحن في روما وسفرنا إلى برلين بالقطار إنه مشوار طويل والقطار مؤلم ولكن الساعات تهون وتتلاشى تحت عجلات القطار من أجل العيون الجميلة وفي البندقية أسمع لأول مرة كلمة الموت اعذرني أستأذنك في أن أتركك بعض الوقت ... فلم أتمالك نفسي.
لماذا لم أقف معها فالحياة لا كانت قبلها ولاهي بعدها,لقد أخذت حياتي معها وتركت بقاياي تبكي على بقاياي..اعذرني يا فريد سوف أكتب إليك متى وجدت ما أقوله أوما أستطيع أن أقوله .. ولك تحياتي.
عزيزي فريد ...أنت المسؤول عن كل ما أصابني أنا غائب عن الحاضر..غارق في الماضي,وليس في الماضي كله إلا هي..التصقت صورتها..انطبع صوتها,لا أسمع سوى لها,لا أريد غيرها, ولا أريد بديلاً عنها..حاولت ثم حاولت ..واستطعت... أنت تعرف كم امرأة عرفت؟ كثيرات هنا وفي أوروبا..كثيرات في كل لغة ..وأكذب لو قلت لك إنني لم أكن سعيداً..واكتشفت.. أنا كذبت عليهن..إنني كنت أنشغل بهن لأبعدعنها.. فقداستولت تماماً على كل حياتي وأريد الهرب منها.. أنها بعيدة جداً..قريبة جداً وتعبت يافريد.. وعدت إلى إيطاليا.. تماماً كالحاج إلى الأماكن المقدسة.. مشيت في نفس الطريق وجلست في نفس المكان.. وبكيت في كل مكان.. في نفس الساعة من كل يوم.. تماماً مثل يوم قابلتها.. نفس الساعة.. نفس الطريق.. ونظرت ورائي.. وعبرت الشارع وجلست على المقهى فوجئت بواحدة تجلس على نفس المقعد,فظللت واقفاً..لا أعرف كم من الوقت.. هذه السيدة أكلت وشربت ودخنت وجلست تقرأ الصحف ثم نهضت بسرعة.. جلست في مقعدها.. مع أن المقاعد كلها خالية.. وأبدت دهشتها.. ولكني لا أسمعها ولا أراها..
آه يافريد .. محترق أنا.. لمست المقعد بأصابعي قبل أن أجلس عليه.. كأنني أقبله بأصابعي وجلست لا أعرف كم من الوقت.. ونهضت وفي نفس الطريق عدت ووقفت أمام بيتها! أستأذنك يا فريد بعض الوقت فلا أريد أن تسقط دموعي على الورق اعذرني سامحني.
نقلت بعضاً يسيراً مما كتبه أنيس عن تلك الفتاة التي ولع بها والتي أحبها حباً أسطورياً لم يستطع أن ينساها ليعرف القارىء قدر رهافة هذا الكاتب ورقة مشاعره ودقة تعبيراته وحجم هذا القلب الكبير لهذا الكاتب الذي قد يتصور البعض أنه من كثرة ما شاهد وسافر وارتحل وقرأ في الفلسفة وفي غيرها أن مشاعره ليست بتلك الرهافة أوقد تكون مشاعر مصطنعة لكن لعل تلك السطور تزيح الغبار عن تلك النظرة إن وجدت.
وربما كان لهذه الحادثة أثراً فيما كتب بعد ذلك وأصبحت نظرته إلى الحياة والموت تأخذ منحى آخر بعد تلك الحادثة يقول في مذكراته (أنني أريد أن أبكي يافريد , إنني لم أبك بما فيه الكفاية, لا تجف الدموع, لا أعرف من أين تجىء, ولماذا تطاوعني؟ ولماذا أطاوعها.. الآن تسطيع أن تقول إنني مجنون )
وفي فقرة أخرى من المذكرات كتب(والله يا فريد في كل مرة أكتب لك خطاباً أقسم بيني وبين نفسي أن يكون هذا هو الأخير .. ولكن أعود إليك وإلى الماضي وإلى الناس .. وقد أهلكتني الذكريات والمذكرات )
وعن حالة العجز عن الكتابة في مرحلة ما والتشوق لها يقول عزيزي فريد:
صدقني أنا لا أعرف من الذي يكتب إليك.. أنا لست أنا.. ولكن أحرك أصابعي والقلم في يدي ولكن لست أنا..إن هذه العقاقير التي أتناولها صباح مساء ألغت دوري, طردتني من حياتي .. لست مطلوباً ..ليس لي مكان أي أحد يستطيع أن يحل محلي.. كأنني ذهبت إلى أحد المسارح وفي يدي نص مسرحي أرسلوه لي وقالوا احفظ دورك وتعال..
وعن رحلة الأدباء ( نجيب محفوظ ويوسف السباعي والشاعر صالح جودت والشاعر محمود حسن إسماعيل وأنيس منصور) إلى اليمن خلال حرب اليمن تلك الحرب التي أوقعنا بها عبد الناصر كتب يقول : جلسنا نتناقش ونحاول أن نفهم مالذي حدث في اليمن ولماذا نحن هنا وما الهدف وما النتيجة من هذه الحرب الدموية بين القوات المصرية والقوات اليمنية , لقد أخطأنا عندما جئنا إلى هذه البلاد التي لا ناقة لنا فيها ولا جمل, وكان اليمنيون يقارنون بين مصر وروسيا في التعامل مع المواطن اليمني ويقولون أن المصريين أتوا إلينا (ببسكو مصر) بينما الروس أتوا بالأرز والسكر , المصريون يقتلوننا والروس يجففون دموعنا ودماءنا - هنا انتهى حديث أنيس عن اليمن- .
لقد أوغرعبد الناصر صدر الشعب اليمني بالكراهية والحقد على مصر فقط لإرضاء نفسه ضحى بخيرة شباب الوطن بين شهيد وجريح ليحقق رغبة شخصية في اعتلاء عرش العروبة فكانت هزائمه في كل الحروب التي خاضها هزائم نكراء بكل أسف ودفع الشعب المصري الثمن .
بالعودة للمذكرات حيث حكى وبكى وأبكانا معه في موضع آخر من الكتاب في فصل خاص كتبه المؤلف بعنوان "في بلاط صاحبة الجلالة" أرسل إليه الكاتب الكبير مصطفى أمين خطاباً مطولا للغاية سأختصره قدرالمستطاع قال فيه:
عزيزي أنيس ..إنك ستتولى رئاسة تحرير مجلة (الجيل)ولا تتصور أنني أكتب لك خطاب تهنئة,إنني أعرف أكثر من غيري ما هو منصب رئيس التحرير,إنه أكبر ( خازوق ) في الصحافة ولا أهنئك بالجلوس فوق هذا الخازوق!
(واشتهرت هذه العبارة حتى صارت قولاً مأثوراً في بلاط صاحبة الجلالة وجلس أنيس فوقه عشر مرات "الجيل وهي وآخر ساعة وأكتوبر و وادي النيل و العروة الوثقى و مايو وكاريكاتير ثم مجلة الكاتب المصري" ثم مجلة القاهرة التي لم يذهب إليها ولم يعمل بها رغم صدور قرار تعينه رئيس تحريرها)
ثم استكمل مصطفى أمين رسالته بأن كتب :
إن رياسة التحرير عرق يبذل ودم يسكب وأعصاب تحترق,إنه منصب لايعرف العطلة الأسبوعية ولا الإجازة السنوية ولا ساعات محددة للعمل,إن رئيس التحرير يأكل وهو صحفي وينام وهو صحفي ويحلم وهو صحفي أيضاً.
وتطول الرسالة لشرح معاناة رئيس التحرير ويشبهه بالمخرج وبقائد فرقة اوركسترا وأستاذ في جامعة ومترودوتيل في فندق وبواب في عمارة وترجمان للسياح وبهلوان.
ثم ينهي رسالته الطويلة بأمنياته أن تصبح (الجيل) لمنطقة بأسرها وليست لمصر فقط أو للعرب فقط ثم يقول له يا صديقي أنيس ابدأ في العزف وكلنا سنغني معك.
الحقيقة أن مقالاً واحداً لا يكفي أبداً لعرض هذا الكتاب الكبير الذي جمعه وكتبه الدكتور مجدي العفيفي وأفنى فيه وقتاً وجهداً محموداً فلن أثقل على القارىء بأكثر من ذلك ولنا في مقالات أخرى عنه بقية.
الرابط المختصر
آخبار تهمك
أسعار الفضة اليوم في مصر تحديث مباشر لأحدث أسعار جرام الفضة السبت 18 أكتوبر 2025
18 أكتوبر 2025 12:54 م
حساب التوفير في بنك مصر أسعار الفائدة على حسابات التوفير بعد قرار المركزي المصري
18 أكتوبر 2025 12:45 م
وزارة المالية تعلن مواعيد صرف مرتبات شهر أكتوبر 2025 للموظفين: تبكير صرف الرواتب
18 أكتوبر 2025 12:40 م
سعر جرام الذهب في السعودية اليوم السبت 18 اكتوبر 2058
18 أكتوبر 2025 12:34 م
سعر جرام الذهب في العراق اليوم السبت 18 أكتوبر 2025
18 أكتوبر 2025 12:28 م
سعر الدولار الأمريكي مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 18 أكتوبر 2025
18 أكتوبر 2025 11:17 ص
الأكثر قراءة
-
بايرن ميونخ يحقق فوزًا غاليًا أمام بوروسيا دورتموند
-
الزمالك يكتسح ديكيداها الصومالي بسداسية
-
التعادل السلبي يحسم الشوط الأول من مباراة بيراميدز ونهضة بركان في السوبر الإفريقي
-
الزمالك يتقدم في الشوط الأول على ديكيداها الصومالي بثلاثية نظيفة
-
توروب يعلق على تحقيقه أول فوز فى مشواره مع الأهلي بدورى الأبطال
أكثر الكلمات انتشاراً