الأحد، 19 أكتوبر 2025

11:54 ص

تحت عنوان “البيئة هي الرحم الثاني والأم الكبرى"

الأوقاف تصدر دليل زاد الأئمة لخطبة الجمعة القادمة 24 أكتوبر 2025م ـ 2 جمادى الاولى 1447هـ

الأحد، 19 أكتوبر 2025 09:42 ص

السيد الطنطاوي

وزارة الأوقاف

وزارة الأوقاف

أعلنت وزارة الأوقاف، عن اصدار الدليل الإرشادي، الثالث والعشرين من سلسلة “زاد الأئمة والخطباء” لـ خطبة الجمعة القادمة 24 أكتوبر 2025م الموافق 2 جمادى الاولى 1447هـ تحت عنوان “البيئة هي الرحم الثاني والأم الكبرى”.

وأوضحت وزارة الأوقاف أن الهدف من موضوع الخطبة، هو التوعية بضرورة وأهمية الحفاظ على البيئة وأثر ذلك في بناء الحضارة.

وأضافت أن الخطبة الثانية ستكون بعنوان “العنف ضد الأطفال”، مشيرة إلى أن هدفها بيان أهمية التعامل الطيب مع الأطفال والأسرة التي تعد البيئة الصغيرة التي يعيش فيها الإنسان، ويُعد العنف ضد الأطفال من الظواهر الخطيرة التي تهدد صحة ونمو الأجيال القادمة، وتؤثر بشكل مباشر على مستقبل المجتمع بأسره، وكما يرشد الإسلام أتباعه إلى الحفاظ على مكونات البيئة من حوله، وأن يكون بها بارا رحيما، لا قاسيا عنيفًا، فكذلك يأمره بأن يحافظ على بيئته الصغيرة (أسرته).

البيئة هي الرحم الثاني والأم الكبرى

الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، أما بعد؛ فالبيئة هي كل ما يحيط بالإنسان في هذه الحياة من عناصر تؤثر فيه ويتأثر بها، سواء كانت هذه العناصر طبيعية، وهي ما كانت من صنع الخالق عز وجل، كالأنهار والمحيطات، والحيوان والنباتات، والمناخ والأرض والسماوات، أو بشرية؛ أي شيدت بواسطة البشر؛ كالطرق والمدارس والمساجد والمشافي العامة، وغير ذلك.

وقد أولى الإسلام عناية تامة للبيئة سواء بالحديث عنها، أو تسخيرها للإنسان، أو أمره بالحفاظ عليها والحرص على إعمارها، أو نهيه عن الإفساد فيها بشتى صور الفساد، وعقوبة من يفعل ذلك، وتوضيح ذلك كالآتي:

مهمة الإنسان في الكون:

لا يخفى على كل مسلم قارئ للقرآن، متدبر لمعانيه، أن هناك مهامَّ إلهية وتكاليفَ ربانية أنيطت به، ينبغي له القيام بها، ويحذر من التغافل عنها أو التكاسل عن أدائها، إحدى هذه المهام هي عنايته بالبيئة التي سخرها الله له وعدم الإفساد فيها، يقول الراغب الأصفهاني رحمه الله: "والأعمال ثلاثة: عمارة الأرض: المعنية بقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: ٦١]،

وعبادة الله تعالى، المعنية بقوله: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]،

وخلافته: المعنية بقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ [الأعراف: ١٢٩]، وقوله تعالى: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ [البقرة: ٣٠]". [الذريعة الى مكارم الشريعة].

ويقول الزمخشري رحمه الله، عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾: "أمركم بالعمارة، والعمارة متنوعة إلى واجب ومندوب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار، وغرس الأشجار، وعمَّروا الأعمار الطِّوال، مع ما كان فيهم من عسف الرعايا، فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم، فأوحى إليه: «إنهم عمروا بلادي، فعاش فيها عبادي»". [الكشاف عن حقائق التنزيل].

كما بين سبحانه وتعالى للمسلم قاعدة مهمة ينبغي له أن يضعها نصب عينيه حال قيامه بما كلفه الله به، وذلك في قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ﴾ [النمل: ٨٨]، فأعلمه أن الكون كله إنما هو من صنع الله تعالى، كما أعلمه أنه سبحانه خبير بما يفعل حيال هذه المصنوعات والمخلوقات.

الإنسان والبيئة.. تشارك وتكامل:

يلفت القرآن أنظارنا إلى معان جليلة ورؤى فريدة في العلاقة بين الإنسان وما يحيط به من نبات وحيوان وجماد، فيبين أن الكون من حوله يشاركه في تسبيحه لله جل وعلا، قال تعالى: ﴿وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤]، وأنه يرافقه في خضوعه وسجوده لله، قال تعالى: ﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ﴾ [الرحمن: ٦]، كما أنه يتفاعل معه ويتأثر بوجود الإنسان الطائع وفقده، قال سبحانه: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانُ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ [فصلت: ١١]، وقال تعالى: ﴿فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ﴾ [الدخان: ٢٩]؛ ولذلك فإن المسلم يتعامل مع مكونات البيئة لا باعتبارها وسط يعيش فيه فقط، بل باعتبارها كائنات تسير معه وترافقه لتتكون منهما منظومة متكاملة في الخضوع والعبادة لله تعالى.

البيئة الطبيعية مُسَخَّرَةٌ للإنسان:

من أجل هذا المعنى السابق: سخر الله مكونات البيئة التي صنعها فأتقن صنعها لمخلوقه الذي كرمه وفضله، وجعلها مهيأة له على أحسن حال، قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾ [إبراهيم: ٣٢، ٣٤].

يقول الطاهر ابن عاشور رحمه الله: "والتسخير؛ حقيقته: التذليل بتعليم وسياسة بدون عوض، ومنه: تسخير الأفراس والرواحل، ومنه تسخير البقر للحلب، والغنم للجز، ويستعمل مجازا في تصريف الشيء غير ذي الإرادة في عمل عجيب أو عظيم، من شأنه أن يصعب استعماله فيه، بحيلة أو إلهام تصريفا يصيره من خصائصه وشئونه، كتسخير الفلك للمخر في البحر بالريح أو بالجدف، وتسخير السحاب للأمطار، وتسخير النهار للعمل، والليل للسكون، وتسخير الليل للسير في الصيف، والشمس للدفء في الشتاء، والظل للتبرد في الصيف، وتسخير الشجر للأكل من ثماره حيث خلق مجردا عن موانع تمنع من اجتنائه".

وقال تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ١٢ - ١٤]

يقول القرطبي رحمه الله: "تسخير البحر: هو تمكين البشر من التصرف فيه وتذليله بالركوب والإرفاء وغيره، وهذه نعمة من نعم الله علينا، فلو شاء سلطه علينا وأغرقنا". [الجامع لأحكام القرآن]

ويقول ابن كثير رحمه الله: "يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج، ويمتن على عباده بتذليله لهم، وتيسيره للركوب فيه، وجعله السمك والحيتان فيه، وإحلاله لعباده لحمها حيها وميتها، في الحل والإحرام، وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة، وتسهيله للعباد استخراجها من قرارها حلية يلبسونها، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره، أي: تشقه، وقيل: تمخر الرياح، وكلاهما صحيح". [تفسير القرآن العظيم]

وطالبنا سبحانه مقابل هذا التسخير بشكر نعمة مولانا عليها، فقال سبحانه: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [الحج: ٣٦]، ولا يتحقق الشكر إلا بالإقرار بأن هذا من صنع الله تعالى، وأيضا بالمحافظة على ما سخره الله لنا.

تعاليم الشريعة وقضايا البيئة:

أرشدتنا شريعتنا الغراء إلى جملة من الآداب التي ينبغي لنا أن نتمسك بها حيال بيئتنا وما يحيط بنا من كائنات، منها:

الحرص على عمارة الأرض للنفع العام، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا، أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ منه طَيْرٌ أَوْ إِنْسَانٌ أَوْ بَهِيمَةٌ؛ إِلَّا كانَ له به صَدَقَةٌ» [رواه البخاري].

قال الحافظ ابن حجر: "وفي الحديث فَضْل الغَرْس والزَّرْع والحضُّ على عمارة الأرض...، وأجر ذلك يستمر ما دام الغرس أو الزرع مأكولاً منه، ولو مات زارعه أو غارسه، ولو انتقل ملكه إلى غيره.

قال الطيبي: "نكَّر "مسلمًا": وأوقعه في سياق النفي، وزاد من الاستغراقية، وعم الحيوان؛ ليدل على سبيل الكناية على أن أي مسلم كان حرًّا أو عبدًا، مطيعًا أو عاصيًا، يعمل أي عمل من المباح، ينتفع بما عمله أي حيوان كان، يرجع نفعه إليه ويثاب عليه". [فتح الباري شرح صحيح البخاري].

ويقول ابن بطال: "وفيه الحض على ‌عمارة ‌الأرض لتعيش نفسه أو من يأتي بعده ممن يؤجر فيه". [شرح صحيح البخاري]

وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، فَإِنْ لَمْ يَزْرَعْهَا، فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ» [رواه مسلم].

وعَنْ أَنَسِ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا» [رواه البخاري في الأدب المفرد].

يقول الإمام المناوي: "والحاصل أنه مبالغة في الحث على غرس الأشجار، وحفر الأنهار؛ لتبقى هذه الدار عامرة إلى آخر أمدها المحدود المعدود المعلوم عند خالقها، فكما غرس لك غيرك فانتفعتَ به فاغرس لمن يجيء بعدك لينتفع، وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة، وذلك بهذا القصد لا ينافي الزهد، والتقلل من الدنيا" [فيض القدير شرح الجامع الصغير].

فليس هناك حث على استغلال البيئة أقوى من هذا الحديث؛ فالإنسان بفطرته كالنبع الفيَّاض لا ينضب، حتى إنه ليظل يعمل حتى تلفظ الحياة آخر أنفاسها، فلو أنَّ الساعة تدق طبولها، فالعمل هنا ضربٌ من العبادة، وقيام بحقِّ الخلافة في الأرض.

الصبر على عمارتها، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن نصب شجرةً فصبَر على حفظِها والقيامِ علَيها حتَّى تُثمرَ، كان لهُ في كلِّ شيءٍ يُصابُ من ثَمرِها صدقةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ» [رواه البيهقي].

إحياء الأرض الموات، إعمار الأرض المهملة فيما يعرف عند الفقهاء بإحياء الموات؛ فعن جابر رضي الله عنه، قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ» [رواه الترمذي وحسنه].

وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَعْمَرَ أَرْضًا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ فَهُوَ أَحَقُّ»، قَالَ عُرْوَةُ: "قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلاَفَتِهِ" [رواه البخاري].

 لكن هذ الإحياء له شروط بحيث يقع في الإطار الذي حدده الشارع الحكيم، ووفق ما تنظمه الدولة من قوانين تحمي بها ملكيتها العامة، وإلا فمخالفة القانون يعد تعديًا؛ فعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ رضي الله عنه، أَنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اقْتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الْأَرْضِ ظُلْمًا، طَوَّقَهُ اللهُ إِيَّاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ» [رواه مسلم].

الحفاظ على مكونات البيئة:

 جعل الله عناصر تكوين البيئة حقًّا مشتركًا بين البشر جميعاً كي يستفيدوا منها؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ثَلَاثٌ لَا يُمْنَعْنَ: الْمَاءُ، وَالْكَلَأُ، وَالنَّارُ» [رواه ابن ماجه].

وعَنْ أَبِي خِدَاشٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ: الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ» [رواه أحمد].

وقد أوجب عليهم ضرورة المحافظة على تلك العناصر التي خلقها؛ لاستدامة الحياة؛ وإبقاء التوازن على الأرض، دون أن يعرِّضها للضرر الذي يترك تأثيراً مباشراً على الإنسان، والكائنات الحية؛ فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى أَنْ لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" [رواه ابن ماجه].

الماء قوام الحياة:

الماء هو المكون الأساس في هذه الحياة وتطور الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، ولولا الماء لما كانت على الأرض حياة، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]، وما من حضارة من الحضارات القديمة إلا وقامت على ضفاف الأنهار، فبغير الماء الصالح لا تصلح الحياة.

قال تعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ﴾ [إبراهيم: ٣٢].

ومن ثم نجد الإسلام يوجه الإنسان إلى مجموعة من الآداب والقيم التي بها يصير محافظًا على تلك النعمة، وتستمر في تسخيرها له من الله تعالى، فمن ذلك: ما جاء من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن تلويث الماء، كأن يبال في الماء الراكد، وهذا السلوك الشنيع يجعل الماء الراكد مستنقعًا وموطنًا لانتشار الأمراض والأوبئة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» [متفق عليه].

قال الإمام النووي: "النهي يقتضي التحريم، على المختار عند المحققين، والأكثرين من أهل الأصول ...، وأما الراكد القليل: فالصواب المختار أنه يحرم البول فيه؛ لأنه ينجسه، ويتلف ماليته، ويغر غيره باستعماله، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: والتغوط في الماء كالبول فيه، وأقبح، وكذلك إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، وكذا إذا بال بقرب النهر بحيث يجري إليه البول، فكله مذموم قبيح، منهي عنه، ولم يخالف في هذا أحد من العلماء.

ويكره البول والتغوط بقرب الماء، وإن لم يصل إليه؛ لعموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارين بالماء، ولما يخاف من وصوله إلى الماء". [شرح النووي على مسلم].

ويحمل على هذا النهي إلقاء مخلفات المصانع والقمامة والحيوانات النافقة في المياه الدائمة فهو مظهر من مظاهر عدم الحافظ على الماء.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ»، قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «الَّذِي يَتَخَلَّى فِي طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ ظِلِّهِمْ» [رواه أبو داود].

قال النووي رحمه الله: "معناه يتغوط في موضع يمر به الناس، ونهى عنه في الظل، والطريق؛ لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس من يمر به، ونتنه، واستقذاره". [شرح النووي على مسلم].

وقال الدِّهلوي رحمه الله: "وحكمة النهي أن كل واحد منهما لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يغير الماء بالفعل، أو يفضي إلى التغيير بأن يراه الناس يفعل فيتتابعوا، وهو بمنزلة اللاعنين، اللهم إلا أن يكون الماء مستبحراً أو جارياً، والعفاف أفضل على كل حال". [مرقاة المفاتيح]

ومن أوجه حماية البيئة: "تحديد أماكن لقضاء الحاجة، والتبول؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه، قال: قَالَ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَبُولَ فَلْيَرْتَدْ لِبَوْلِهِ مَوْضِعًا» [رواه أبو داود].

كذلك نهى صلى الله عليه وسلم عن الإسراف في استعمال الماء، ولو تعلق الأمر بالعبادة كالوضوء، فقد مرّ صلى الله عليه وسلم بسعد رضي الله عنه، وهو يتوضأ فقال: «ما هذا السَّرَف؟»، فقال: أفي الوضوء إسراف؟ قال: «نعم، وإن كنت على نهرٍ جارٍ» [رواه أحمد].

وقال تعالى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: ٣١].

النبات غرسه وحرمة قطعه:

أوضح الإسلام أن كل من يأكل من النبات الذي يغرسه المسلم سواء كان حيوانا أو إنسانا؛ فإن للغارس وللزارع صدقة على هذا الأكل والطعام، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ ‌مُسْلِمٍ ‌يَغْرِسُ ‌غَرْسًا أَوْ يَزْرَعُ زَرْعًا، فَيَأْكُلُ مِنْهُ طَيْرٌ، أَوْ إِنْسَانٌ، أَوْ بَهِيمَةٌ، إِلَّا كَانَ لَهُ بِهِ صَدَقَةٌ» [متفق عليه].

وكما بين الحديث هذا المعنى، ألمح إلى أن من سعى لإتلاف هذا الزرع وهذا الغرس الذي ينتفع الناس منه له عقوبة، وذلك مقابل الصدقة التي منحها لمن يزرع ويغرس.

وأكد هذا المعنى، في قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ اللهُ رَأْسَهُ فِي النَّارِ»، يعني: من قطع سدرة في فلاة، يستظل بها ابن السبيل والبهائم، عبثا وظلما بغير حق يكون له فيها: صوب الله رأسه في النار. [رواه أبو داود].

الحيوان بين الرفق والتمثيل:

الرفق بالحيوان أمر جميل، جاءت به الشريعة الإسلامية، وأكدت عليه الآيات القرآنية -كما سبق ووضحنا-، وقد أرشدت السنة النبوية إلى جملة من التعاليم التي تنظم علاقة الإنسان بالحيوان، وتحذره من استغلالها على غير الوجه الذي أمر الله تعالى به، منها:

النهي عن اللعب واللهو والتمثيل بالحيوان: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إِيَّاكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا ظُهُورَ ‌دَوَابِّكُمْ ‌مَنَابِرَ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُبَلِّغَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ، وَجَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فَعَلَيْهَا فَاقْضُوا حَاجَتَكُمْ» [سنن أبي داود].

عَنْ سَهْلِ ابْنِ الْحَنْظَلِيَّةِ رضي الله عنه، قَالَ: مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعِيرٍ قَدْ لَحِقَ ظَهْرُهُ بِبَطْنِهِ، فَقَالَ: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً» [رواه أبو داود].

عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَعَنَ اللَّهُ مَنْ مَثَّلَ بِالْحَيَوَانِ» [رواه البخاري].

الحفاظ على وجوده وعدم انقراضه: أمر الشارع الحكيم بالحفاظ على الحيوانات، وحرَّم قتلها إلا إذا كانت تؤذي الإنسان؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «خَمْسُ فَوَاسِقَ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ، وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالْفَأْرَةُ» [رواه مسلم]، وذلك لتحقيق التوازن البيئي.

التوازن البيئي والأمر بمراعاته:

إن التعدي على المكونات البيئية المختلفة يحدث حالة من عدم التوازن البيئي، وهو ما يؤدي بدوره إلى اختلال الحياة واضطرابها.

يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ﴾ [الحجر: ١٩]، فعناصر البيئة ومكوناتها كما خلقها الله في حالة توازن، واختلال التوازن البيئي هو أحد مظاهر التلوث البيئي، وللإنسان دور كبير في إحداث هذا الاختلال.

 وحذر الشرع الإنسان من إفناء السلالات الحيوانية أو انقراضها في الطبيعة؛ فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَوْلَا أَنَّ الْكِلَابَ أُمَّةٌ مِنَ الْأُمَمِ لَأَمَرْتُ بِقَتْلِهَا» [رواه أبو داود، والترمذي].

قال الإمام الخطابي: "معناه: أنَّه صلى الله عليه وآله وسلم كرِهَ إفناءَ أمةٍ مِن الأمم، وإعدام جيلٍ مِن الخلق حتى يأتي عليه كلِّه فلا يبقى منه باقية؛ لأنه ما مِن خلقٍ لله تعالى إلَّا وفيه نوعٌ مِن الحكمة وضربٌ مِن المصلحة". [معالم السنن].

وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ إِنْسَانٍ قَتَلَ عُصْفُورًا فَمَا فَوْقَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا، إِلَّا سَأَلَهُ اللَّهُ عَنْهَا»، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا حَقُّهَا؟ قَالَ: «يَذْبَحُهَا فَيَأْكُلُهَا، وَلَا يَقْطَعُ رَأْسَهَا يَرْمِي بِهَا»[رواه النسائي].

قال الإمام البهوتي الحنبلي: "وعلى مالك البهيمة إطعامها، ولو عطبت أي: لم يرج منه نفع، وعليه سقيها حتى تنتهي إلى أول شبع، وأول ري دون غايتها...، فإن عجز عن نفقتها، أُجْبِر على بيع أو إجارة، أو ذبح مأكول، إزالةً لضررها وظلمها، ولأنها تتلف إذا تركت بلا نفقة، وإضاعة المال منهيٌّ عنه، فإن أبى فعل شيء من ذلك، فعل الحاكم الأصلح من الثلاثة، أو اقترض عليه، وأنفق عليه، كما لو امتنع من أداء الدين...، ويحرم حلْبها ما يضرُّ ولدَها؛ لأن لبنها مخلوق له فأشبه ولد الأمة، ويسن للحلاب أن يقص أظفاره؛ لئلا يجرح الضرع ...، ولا يحل حبس شيء من البهائم؛ لتهلك جوعًا، أو عطشًا؛ لأنه تعذيب". [كشاف القناع عن متن الإقناع].

بل إن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى المحافظة على نوع الحيوانات، وتنوعها، فإذا ما هُجِّنت اختلَّت لِما لِكل منها من وظائف يكمل بعضها بعض، ودخل الحرج والضيق حياة الإنسان.

عن ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قال: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ...، وَأَنْ لَا نُنْزِيَ الْحِمَارَ عَلَى الْفَرَسِ" [رواه أبو داود].

عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه، قَالَ: "أُهْدِيَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةٌ، فَرَكِبَهَا، فَقَالَ عَلِيٌّ: لَوْ حَمَلْنَا الْحَمِيرَ عَلَى الْخَيْلِ لَكَانَتْ لَنَا مِثْلُ هَذِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ» [رواه النسائي، وأحمد].

ولقد صدق من قال إن الإنسان بدأ حياته على سطح الأرض محاولا أن يحمي نفسه من أخطار الطبيعة، وانتهى به الأمر بعد عشرات الآلاف من السنين وهو يحاول أن يحمي الطبيعة أو البيئة من أخطاره! [المدخل إلى علم الجغرافيا والبيئة لمحمد محمود محمدين، وطه عثمان الفراء].

البيئة وإماطة الأذى عنها:

أعلى الإسلام من أمر العناية بالبيئة والمحافظة عليها، وأمر بإماطة الأذى عنها، بأن جعل هذا الصنيع أولا من محاسن الأعمال، فعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الْأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ، لَا تُدْفَنُ» [رواه مسلم].

وهو أيضا شعبة من شعب الإيمان، بتحصيلها يكمل الإيمان، وبانتفائها لا يكتمل الإيمان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ- شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ» [رواه مسلم].

كما جعل إماطة الاذى سببًا للفوز بنعيم الله الأبدي، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا يَتَقَلَّبُ فِي الْجَنَّةِ، فِي شَجَرَةٍ قَطَعَهَا مِنْ ظَهْرِ الطَّرِيقِ، كَانَتْ تُؤْذِي النَّاسَ» [رواه مسلم].

ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها:

لما استخلف الله البشر في الأرض، قالت الملائكة: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] وهو سؤال استعلام واستفهام وليس استنكارا.

ولعل سؤال الملائكة؛ لأن الله خلق بشرا مخيرا مهيئا للخير والشر، ولكن الله علم الإنسان وأرسل له الرسل وجعله مؤهلا للخلافة في الأرض، فيهلك من هلك عن بينة ويحي من حي عن بينة.

قال الله تعالى: ﴿وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا﴾ [الأعراف:٥٦].

وقد ربط القرآن بين فساد البيئة وفساد الإنسان، كما في قوله تعالى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: ٤١]، مما يعني أن الفساد البيئي هو انعكاس مباشر لفساد النفوس: من جشع، وإسراف، وتعد على حقوق الآخرين، وتجاهل للأمانة التي حمّلها الله للإنسان في الأرض، فإصلاح البيئة ضرورة حضارية وشرعية، لكنه لا يغني عن إصلاح النفوس، بل هو ثمرة لها، فالنفس الصالحة تصلح الأرض، وتبني الحضارة، وتحفظ الأمانة التي استخلفه الله فيها.

واتفقت كلمة الشرائع السماوية على النهي عن الإفساد في البيئة بأي صورة أو وسيلة كانت، فهذا نبي الله صالح عليه السلام ينهى قومه قائلاً: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ [الشعراء: ١٥١ - ١٥٢].

وموسى يخاطب أخاه هارون عليهما السلام قائلاً له: ﴿اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: ١٤٢].

وقال تعالى ﴿وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٧٧].

وجعل الله الإفساد في البيئة من صفات المنافقين، قال تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: ٢٠٥].

ومن الإفساد قطع الأشجار التي يستظل بها الناس والدواب، فعن الْحَسَنِ رحمه الله، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَقْطَعُوا الشَّجَرَ، فَإِنَّهُ عِصْمَةٌ لِلْمَوَاشِي فِي الْجَدْبِ» [مصنف عبد الرزاق].

وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ أَعْمَالُ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنِ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِي أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لاَ تُدْفَنُ» [رواه مسلم].

إهمال مكونات البيئة.. المخاطر والآفات:

لا شك أن إهمال المكونات البيئية تؤدي إلى مخاطر لا قبل للإنسان بها، من ذلك: الفقر المائي، والجفاف المائي، وقلة مساحة الرقعة الخضراء، مما يؤثر على الإنتاج الزراعي والغذائي للإنسان، والتصحر، والاحتباس الحراري، والأزمات المناخية المتلاحقة، وقلة الإنتاج الحيواني، وتدهور الصحة العامة للإنسان، وغير ذلك من المخاطر التي يلمسها الإنسان بنفسه ويشهدها بعينه، جراء ما كسبت يداه من إهمال أو إفساد لمكونات البيئة.

 خطوات عملية للحفاظ على البيئة:

على كل فرد منا واجب تجاه البيئة التي يعيش فيها، وهذه مسئولية أناطها الإسلام به، ولا يغني عن ذلك أن بعض مؤسسات الدولة تقوم على مثل هذه الأمور، فالمسئولية هنا فردية وجماعية، ومن جملة ما يجب على المسلم القيام به:

  • ترشيد استهلاك الماء، وذلك حال الاستخدام في الطهارة والوضوء والاغتسال، وغسل الأواني، وسقي الزرع، وغير ذلك من أمور الحياة، تجنبا للفقر المائي أو الجفاف.
  • ترشيد استخدام الطاقة الكهربائية والإلكترونية، حتى لا يؤدي ذلك إلى المزيد من الاحتباس الحراري.
  • النظافة، فكما أن الإنسان يحرص على نظافة جسده وبيته، يحرص كذلك على نظافة مجتمعه وبيئته، بل يسعى إلى إزالة الأذى الذي يقع في بعض جوانبها.
  • العناية بزراعة الأشجار المثمرة: تمدنا بالغذاء، والهواء النقي؛ فهي مصدر للأكسجين، وتقلل من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ لذا الحد من انتشارها فيه تهديد على البيئة؛ لأنها جزء من الطبيعة، ولها دور فعال في خلق توازن غازات الجو.
  • منع الزحف العمراني: حيث يتسبب في القضاء على المساحات الخضراء التي يستفيد منها الإنسان والحيوان والطير، فضلاً عن أنه يؤثر في جمال البيئة، وينبه الأحاسيس الجامدة، والقلوب المغلقة إلى بدائع صُنْع الله فيه.
  • الحد من استخدام المواد الكيميائية الضارة: فهي تتسرب للهواء، والماء، والتربة ومن ثم تصيب الإنسان بالأمراض المختلفة، ويدخل في ذلك ما يقوم به بعض المزارعين من رش المبيدات والكيماويات في غير أوانها؛ ليستعجلوا قطف الثمار، وكذا حرق مخلفات الزراعة ك "البوص" وما ينتج عنه من دخان وضيق في استنشاق الهواء، وإيذاء المارة والمقيمين، وتلوث طبقة الهواء الجوي وغيرها مما هو مشاهد وواقع، ومتجدد كل موسم وحصاد.
  • معالجة التلوث البيئي، واستغلاله فيما يفيد: أجاز لنا الإسلام الانتفاع بجلود الميتة؛ فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: "وَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَيِّتَةً أُعْطِيَتْهَا مَوْلاَةٌ لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا؟» قَالُوا: إِنَّهَا مَيْتَةٌ: قَالَ: «إِنَّمَا حَرُمَ أَكْلُهَا» [رواه مسلم].

وفي هذا تشجيع على الانتفاع بكل ما هو حولنا في الطبيعة، وعدم تركه للتلف، وهذا أصل في الحث على "الصناعات التحويلية" التي تعالج التلوث البيئي؛ فليحرص الإنسان على التعامل الإيجابي مع مكونات هذه البيئة، تعاملاً نافعاً له فرداً وجماعة.

  • متابعة النشرات التوعوية التي تصدر عن وزارة البيئة.

فلا شك أن فيها منفعة للإنسان، لأنها تتم عن طريق بحوث وتجارب ورجوع للخبراء؛ للوصول إلى أقل ضرر وأعظم نفع.

الخطبة الثانية

العنف ضد الأطفال

يُعد العنف ضد الأطفال من الظواهر الخطيرة التي تهدد صحة ونمو الأجيال القادمة، وتؤثر بشكل مباشر على مستقبل المجتمع بأسره، وكما يرشد الإسلام أتباعه إلى الحفاظ على مكونات البيئة من حوله، وأن يكون بها بارا رحيما، لا قاسيا عنيفًا، فكذلك يأمره بأن يحافظ على بيئته الصغيرة (أسرته)، وألا يلمس منه أفرادها إلا الرحمة بمفهومها الواسع في التربية.

 ويتخذ العنف أشكالًا متعددة تشمل الإيذاء الجسدي كالضرب الشديد، والنفسي كالإهانة والإهمال، مما يترك أثرًا عميقًا على الأطفال من الناحية النفسية والسلوكية.

إنَّ ظاهرة العنف ضد الأطفال ظاهرة مرفوضة في الشرع الشريف والفطرة السوية، وذلك لأسباب كثيرة أهمها:

نعمة الأطفال نعمة بين الشكر والإهمال:

فالأطفال منحة ربانية، لذلك وصفهم ربنا سبحانه فقال: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: ٤٦]، وروى الحاكم في المستدرك على الصحيحين من حديث سيدتنا عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "إِنَّ أَوْلاَدَكُمْ هِبَةُ اللَّهِ لَكُمْ".

والآباء متفاوتون في تقدير هذا النعمة تفاوتًا عظيمًا، شأنها شأن كل النعم، يعرف حقها من حُرم منها، ويتجاهلها من رزقها، لكن الطامة الكبرى أن يجعل هؤلاء الأطفال الأبرياء حقول تجارب للعنف بكافة ألوانه وأشكاله.

فبعض الآباء لا يحسن الصبر على تربية الأطفال، وهو أمر مهم، حتى يستوعب المشكلة، وكيفية معالجتها ومن ثم تغيير سلوك الطفل من السيئ إلى الأحسن، بينما العنف والعصبية يجعل المشكلة تتفاقم، وقد يستشكل معالجتها، وقد يقود الطفل للانحراف، ويزيد من تمرده وعصيانه بل قد يهجر البيت، ولا يأوي إليه إلا عند الضرورة، ومن ثم يصعب السيطرة عليه.

وبعض آخر ضعف الوازع الديني عندهم، فلا يكاد يسلم من أذاه أحد، حتى أبناؤه، فكأنما نُزعت الرحمة من قلبه، فأصبح بلا إحساس، فهذا توعده النبي صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ خَالِدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا» [رواه أحمد].

مظاهر العنف ضد الأطفال:

  • العنف اللفظي أو النفسي: وهو استخدام الألفاظ البذيئة التي يتلفظ بها الوالدان أو غيرهم، من سب وشتم، وتوبيخ للأبناء، وتهديد وإهانة، ويعتبر هذا النوع من العنف من أكثر المظاهر تأثيرًا على نفسية الطفل حيث يفقده قيمته بين أهله وأصداقه وجيرانه.

والناظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنه تحاشى هذا النوع خاصة مع الضعفاء والصِّغار؛ فعن أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: "خَدَمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي: أُفٍّ، وَلاَ: لِمَ صَنَعْتَ؟ وَلاَ: أَلَّا صَنَعْتَ" [رواه البخاري]. وكانت الكلمة الطيبة دائما شعاره في التربية والتوجيه والإرشاد والتعليم لما لها من أثر طيب في نفس الطفل وسلوكه.

  • العنف الجسدي: وهو الإيذاء البدني سواء باليد أو باستخدام العصا أو أداة حادة، وغالبًا ما تترك آثارًا على جسد الطفل يصعب إخفاؤها، وهذا العنف من أكثر الأشكال وضوحًا، وإثباتًا له. والمستقرئ لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم يرى انعدام هذا النوع من العنف في معاملاته صلى الله عليه وسلم؛ فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً قَطُّ" [رواه أبو داود].
  • العنف الجنسي: وهو استخدام الأطفال سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا لإشباع الرغبة الجنسية بالإكراه أو الخديعة، ولا يخفى ما فيه من إيذاء للطفل وانتهاك لخصوصيته، كما لا يخفى أنه أمارة على انسلاخ الفطرة السليمة، ودليل على انطماس البصيرة.

آثار العنف مع الأطفال على الفرد والمجتمع:

أثبتت الدراسات أن العنف بأي نوع من الأنواع السابقة، تجاه الأطفال يترك أثرًا سيئًا عميقًا من الناحية النفسية والسلوكية؛ ويؤدي إلى فقدان الراحة الأسرة والأمان داخل البيت، مما يضطرهم إلى اللجوء إلى الشارع، ويتلقاهم أصدقاء السوء الذين يقودونهم إلى الانحراف، ومن ثم الوقوع في براثن الجرائم المختلفة.

كما ينتج عن ذلك كله تدني مستوى الطفل دراسيًّا بسبب التشتت، وضعف الانتباه، والعدوانية، ومن ثم الرسوب المتكرر في التعليم، ثم ينتهي به الحال إلى ترك الدراسة بالكلية.

ولا شك أن العنف ضد الأطفال يعوق عملية التنمية والتطوير داخل المجتمعات، حيث يتطلب جهودًا كبيرة في رعاية الأسر المفككة، وأموالًا طائلة بحيث لو بذلت في مصالح الأوطان؛ لأدت إلى ازدهاره. [العنف الأسري، أسبابه، آثاره، وعلاجه في الفقه الإسلامي].

الرجولة رحمة وليست قسوة، ولنا في رسول الله قدوة وأسوة:

يظن بعض الآباء أو من يعول أطفالًا أن القسوة هي العنصر الأساسي في التعامل معهم، وأنها مقياس للرجولة، وأن العنف ضدهم يجعل منهم رجالًا أشداء أقوياء في المستقبل؛ لذلك يحرمونهم من كلمةٍ طيبةٍ، أو معاملةٍ حسنةٍ بل حتى من قُبلة تُشعر الطفل بالمحبة والتقدير، بينما تكشف له الأيام والمواقف أنه كان على جُرم عظيم، ويحاول أن يُعوِّض ذلك أو يعالجه؛ فإذ به يجد حواجز نفسية وعوائق معنوية قد أُقيمت بينه وبين أطفاله.

إن نبينا صلى الله عليه وسلم كان في أعلى مراتب الرجولة، ومع ذلك كان برًّا رحيمًا بالأطفال وغيرهم، وصدق الله حيث قال سبحانه: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩]، ويُصِّور ذلك سيدنا أَنَس بْن مَالِكٍ رضي الله عنه فيقول: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ"، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعًا لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنَّهُ لَيُدَّخَنُ، وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْنًا، فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبِّلُهُ، ثُمَّ يَرْجِعُ" [رواه مسلم].

قال الإمام النووي: "ففيه بيان كريم خُلقه صلى الله عليه وسلم، ورحمته للعيال، والضعفاء...، وفيه فضيلة رحمة العيال والأطفال، وتقبيلهم". [شرح النووي على صحيح مسلم].

لقد علَّم الرسول صلى الله عليه وسلم الأُمَّة كيف يعاملون أطفالهم؛ ليزرع الثقة في نفوسهم، والحب والعطف في قلوبهم؛ ليسهل على الأطفال تقبل توجيهات آبائهم، والانصياع لأوامرهم لِمَا يشعرون به من بذور الحنان، ورُقِي المعاملة، فكثيرًا ما كان يبيٍّن صلى الله عليه وسلم الأسلوب الأمثل، والعلاج الناجع في تربية النشء؛ فعَنْ سيدنا أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، أَبْصَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُ الْحَسَنَ فَقَالَ: إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّهُ مَنْ لَا يَرْحَمْ لَا يُرْحَمْ» [رواه مسلم].

وعَنْ سيدتنا عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالُوا: لَكِنَّا وَاللهِ مَا نُقَبِّلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرَّحْمَةَ» [رواه مسلم].

الترغيب والترهيب .. جناحا التربية:

ليس معنى هذا أن نُدلل الأطفال، أو نتركهم بلا تأديب أو تعنيف -أحيانًا- إن أخطأوا، وإنما نجمع في تربيتهم بين "الترغيب والترهيب" دون أن نُغلِّب أحدهما على الآخر، وكل أب أدرى بما يُصلح به حال طفله، فقد يغلب الترغيب قليلا عند طفل، وقد يغلب الترهيب قليلا عند آخر، وكل بلا شطط أو مبالغة، وإنما مراعاة لطبيعة نفسية الطفل، وعليه أن يغرس فيه المبادئ والقِيم النبيلة كالتسامح والإيثار، والثقة بالنفس، وأن يشجعه دوماً على الأفعال الحسنة، ويَعِده بالعطايا والهدايا بين الحين والآخر.

إن الحالة التي جاء فيها الأمر باستعمال "العُنف مع الأطفال" هي إذا بلغوا سن العاشرة، وكانوا مُصِّرين على ترك الصلاة، فيؤدب الصبي بالقول، ثم الوعيد، ثم التعنيف، ثم الضرب؛ فعَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا، وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ». [رواه أبو داود].

والضرب هنا يقصد به الزجر والتخويف لا حقيقة الضرب والإيذاء، لأن الأصل أن يقبل على العبادة وهو راضٍ لا مكره.

يقول ابن الحاج المالكي: "فَرُبَّ صَبِيٍّ يَكْفِيه عُبُوسَةُ وَجْهِهِ عَلَيْهِ، وَآخَرَ لَا يَرْتَدِعُ إلَّا بِالْكَلَامِ الْغَلِيظِ وَالتَّهْدِيدِ، وَآخَرَ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِالضَّرْبِ وَالْإِهَانَةِ، كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ.

وَقَدْ جَاءَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا يُضْرَبُ عَلَيْهَا إلَّا لِعَشْرٍ فَمَا سِوَاهَا أَحْرَى، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَعَهُمْ بِالرِّفْقِ مَهْمَا أَمْكَنَهُ؛ إذْ إنَّهُ لَا يَجِبُ ضَرْبُهُمْ فِي هَذَا السِّنِّ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ، فَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي سِنِّ مَنْ يُضْرَبُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ، وَاضْطُرَّ إلَى ضَرْبِهِ، ضَرَبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْوَاطٍ شَيْئًا، بِذَلِكَ مَضَتْ عَادَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ". [المدخل].

تحلوا بالرِّفق مع أطفالكم، ولا تُعنِّفوهم:

حينئذٍ تحل البركة والرحمة على الأسرة ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾ [الفرقان: ٧٤]، ولن تلجأوا للعنف ولا للضرب؛ لأنكم تأسرونهم بجميل صنائعكم؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا رُزِقَ أَهْلُ بَيْتٍ الرِّفْقَ إِلَّا نَفَعَهُمْ وَلَا صُرِفَ عَنْهُمْ إِلَّا ضَرَّهُمْ». [رواه البيهقي في "شعب الإيمان"].

يقول الإمام الغزالي: "ثُمَّ مَهْمَا ظَهَرَ مِنَ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ، وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ، وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ، وَيُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ، فَإِنْ خَالَفَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَغَافَلَ عَنْهُ، وَلَا يَهْتِكَ سِتْرَهُ، وَلَا يُكَاشِفَهُ، وَلَا يُظْهِرَ له أنه يتصور أن يتجاسروا أَحَدٌ عَلَى مِثْلِهِ وَلَا سِيَّمَا إِذَا سَتَرَهُ الصبي، واجتهد في إخفائه، فإن إظهار ذَلِكَ عَلَيْهِ رُبَّمَا يُفِيدُهُ جَسَارَةً حَتَّى لَا يُبَالِيَ بِالْمُكَاشَفَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ إِنْ عَادَ ثَانِيًا، فينبغي أَنْ يُعَاتَبَ سِرًّا، وَيُعَظَّمَ الْأَمْرُ فِيهِ، وَيُقَالُ لَهُ إِيَّاكَ أَنْ تَعُودَ بَعْدَ ذَلِكَ لِمِثْلِ هَذَا، وَأَنْ يُطَّلَعَ عَلَيْكَ فِي مِثْلِ هَذَا، فَتَفْتَضِحَ بَيْنَ النَّاسِ، وَلَا تُكْثِرِ الْقَوْلَ عَلَيْهِ بِالْعِتَابِ فِي كُلِّ حِينٍ، فَإِنَّهُ يَهُونُ عَلَيْهِ سَمَاعُ الْمَلَامَةِ، وَرُكُوبُ الْقَبَائِحِ، وَيَسْقُطُ وَقْعُ الْكَلَامِ من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الْكَلَامِ مَعَهُ، فَلَا يُوَبِّخُهُ إِلَّا أَحْيَانًا، وَالْأُمُّ تُخَوِّفُهُ بِالْأَبِ، وَتَزْجُرُهُ عَنِ الْقَبَائِحِ). [إحياء علوم الدين].

احذروا الدعاء على أطفالكم:

وهو مظهر من مظاهر العنف، وأسلوب من أساليب التهديد، تجاه الأطفال؛ يلجأ إليه بعض الآباء لحث الطفل على القيام بما يأمرونه به، فقط دون مراعاة للطفل، فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَدْعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَوْلَادِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى خَدَمِكُمْ، وَلَا تَدْعُوا عَلَى أَمْوَالِكُمْ، لَا تُوَافِقُوا مِنَ اللَّهِ سَاعَةَ نَيْلٍ فِيهَا عَطَاءٌ، فَيَسْتَجِيبَ لَكُمْ» [رواه مسلم].

بل أكثروا من الدعاء لهم بالخير والبر، فهذا من أهم وسائل التربية السليمة، ومن أهم أسباب صلاحهم، واعلموا أن استقامتكم سبب رئيس في استقامتهم وصلاحهم في الدنيا والآخرة قال تعالى: ﴿وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ [النساء: ٩]، وقال سبحانه: ﴿وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا﴾ [الكهف: ٨٢].

اقرأ أيضا:

مفتي الجمهورية يوضح حكم الشرع في تحديد جنس الجنين

دكتور شوقي علام يبين حكم عمل ختمة قرآن ووهب ثوابها للمتوفى

دكتور شوقي علام: أسبابٍ موضوعية لعدم مساواة المرأة والرجل في كل شيء

مفتي الجمهورية يبين حكم صلاة المرأة بالنقاب

الدكتور شوقي علام يبين حكم الحسد وعلاجه

دار الإفتاء: الزواج مقدم على الحج للشباب في حالة واحدة

فاتتني بعض التكبيرات مع الإمام في صلاة الجنازة.. دكتور شوقي علام يوضح الحكم

حكم زيارة مقامات الأنبياء والأولياء والصالحين.. مفتي الجمهورية يوضح

الرابط المختصر

search