الجمعة، 31 أكتوبر 2025

10:39 م

أحمد فاضل يكتب: واشنطن ومادورو والخطف المشروع

الجمعة، 31 أكتوبر 2025 03:26 م

أحمد فاضل

أحمد فاضل

في عالمٍ يزداد اضطراباً، لا شيء يبقى في منطقة الضوء، فحين تعجز الدبلوماسية عن تحقيق أهدافها، تتحرّك أدوات الظلّ في دهاليز السياسة الدولية، حيث تتقاطع المصالح مع الأخلاق، وتتحوّل “السيادة” إلى ورقة مساومة.

الكشف الذي نشرته صحيفة تايمز البريطانية ووكالة أسوشيتد برس، عن محاولةٍ أميركية لاختطاف الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، عبر رشوة طياره الشخصي وتحويل مسار الطائرة الرئاسية إلى قاعدة أميركية، ليس مجرد حادثة استخباراتية عابرة، بل علامة فارقة في منطق القوة الأميركية المتجددة، التي ما زالت ترى في “حق الملاحقة خارج الحدود” وسيلة مشروعة لتصفية الخصوم السياسيين.

وفقاً للتقارير والتسريبات الإعلامية المنشورة في هذا الصدد، عرض أحد الملحقين الأميركيين في جمهورية الدومينيكان على الطيار الفنزويلي العميد بيتنر فيليغاس ملايين الدولارات مقابل تنفيذ عملية “التحويل”، مع وعد بلقب “بطل فنزويلا"، لكن رفض الطيار الفنزويلي الخاص للرئيس مادورو، وردّه القاطع بأن “الفنزويليين لا يخونون وطنهم”، منح القصة بُعداً رمزياً أكبر من مجرد تسريب دبلوماسي؛ إنه صدام بين الولاء الوطني والإغراء الإمبراطوري.

من الناحية القانونية، فإن مثل هذه العملية ـ لو تمّت ـ كانت ستشكّل انتهاكاً صارخاً لميثاق الأمم المتحدة، واعتداءً مباشراً على سيادة دولة عضو، لكنها في الوقت نفسه تعبّر عن استمرار المدرسة الأميركية القديمة، التي تتعامل مع خصومها السياسيين كما لو كانوا “ملفاً أمنياً” لا “نظاماً سيادياً”، كما حدث مع مانويل نورييغا في بنما عام 1989، أو محاولات إسقاط كاسترو طيلة الحرب الباردة.

ويتزامن هذا الكشف مع تحريك واشنطن أكبر أسطول بحري لها في الكاريبي منذ عقود، في ما تصفه فنزويلا بأنه “تحضير لعمل عسكري محتمل”، تحت غطاء مكافحة المخدرات والإرهاب.
لكن القراءة السياسية العميقة، تكشف أن الهدف يتجاوز مادورو إلى إعادة رسم توازن القوى في القارة اللاتينية، خاصة بعد تمدد النفوذ الروسي والصيني في فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا.

فالمسألة لم تعد تتعلق برئيس متهم بتهريب المخدرات كما تزعم واشنطن، بل بموقعٍ جيوسياسي حساس على حدود المجال الأميركي التقليدي، تحاول فنزويلا أن تملأه بحضور روسي وصيني متزايد، ما يجعلها “نقطة صد” في معادلة النفوذ العالمي الجديدة.

ما غاب عن واشنطن في هذه الخطة ليس فقط المخاطر القانونية، بل أيضاً عمق الذاكرة التاريخية لشعوب أميركا اللاتينية.
فهذه الشعوب، التي خبرت الانقلابات المدعومة من الـCIA منذ تشيلي وغواتيمالا إلى بوليفيا، لم تعد تتعامل مع الولايات المتحدة كـ”منقذ للديمقراطية”، بل كـ”وصي على الثروات والحدود”.
لذلك فإن كل خطوة أميركية تُفسَّر في كراكاس أو هافانا أو ماناغوا كجزء من استراتيجية الهيمنة القديمة في ثوب جديد.

فرفض الطيار فيليغاس للعرض الأميركي لم يكن مجرد تصرف شخصي، بل رمزٌ لمقاومةٍ داخليةٍ تتجاوز الأوامر والسياسات، إنه الرفض الذي يعيد تعريف مفهوم “الولاء الوطني”، في زمن تتقاطع فيه الهويات مع الحسابات البنكية.

إن أخطر ما في القضية ليس فشل العملية، بل ما تكشفه من تآكل المنظور الأخلاقي الأميركي في إدارة السياسة الخارجية.
فالدولة التي تبني شرعيتها الدولية على “نشر الديمقراطية” و“محاربة الاستبداد”، تبدو اليوم مستعدة لخرق القوانين الدولية، واستخدام أساليب العصابات لتحقيق غايات سياسية.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى: واشنطن التي تتهم مادورو بـ”الإرهاب”، كانت تخطط لاستخدام وسائل إرهابية الطابع لاختطافه.

إن محاولة كهذه، حتى وإن لم تُنفذ، تُرسل إشارة خطيرة: أن القانون الدولي يفقد قدرته الردعية أمام تفاقم منطق القوة، وأن العالم يتجه نحو مرحلة ما بعد النظام، حيث تصبح السيادة نسبية، والعدالة انتقائية، والأمن الدولي مرهوناً بموازين اللحظة.

في هذا السياق، تمثل فنزويلا اليوم اختباراً جديداً للنظام العالمي: هل سيبقى العالم صامتاً أمام “اختطاف سياسي محتمل” لرئيس دولة، أم أن اللحظة تستدعي إعادة تعريف معنى العدالة الدولية؟

فما تصفه واشنطن بأنه “إحضار مادورو إلى العدالة” ليس سوى إعادة إحياء لسياسة الخطف المشروع التي مارستها على مدى عقودٍ طويلة؛ من بنما التي أُسقط فيها نورييغا، إلى بغداد التي احترقت تحت شعار التحرير، ومن كابول الممزقة إلى كراكاس المهدَّدة اليوم بالسيناريو نفسه.

إنها السياسة ذاتها التي ترتدي ثوب القانون لتُخفي وجه الانتقام، وتتحدث بلسان العدالة بينما تحمل في يدها خنجر القوة.

الولايات المتحدة لا تطارد مادورو لأنه متهم بتهريب المخدرات، بل لأنها عاجزة عن احتمال زعيمٍ قال “لا” لهيمنتها، وفتح أبواب بلاده أمام موسكو وبكين وطهران.
إنها ليست معركة ضد رئيسٍ بعينه، بل صدام بين إمبراطوريةٍ تتآكل ومشروعٍ عالميٍّ جديد يولد من تحت رمادها.

في هذه المواجهة، تبدو واشنطن كمن يحاكم العالم بتهمة التمرّد عليه،
بينما تقف فنزويلا ـ رغم حصارها ـ كندٍّ رمزيٍّ يذكّر الجميع بأن زمن الخضوع الأعمى قد انتهى.

ختاما، ربما لم تتحرك طائرة الرئيس الفنزويلي مادورو نحو بورتو ريكو أو غوانتانامو، لكن مسار السياسة الدولية انحرف فعلاً نحو منحدر جديد، حيث لم تعد الحدود تمنع الطموحات، ولا القوانين تقيّد الأذرع الخفية للقوة.

لقد أنقذ الطيار فيليغاس أكثر من رئيس؛ أنقذ فكرة أن الوطن لا يُشترى، وأن السيادة ليست للبيع.
وإذا كانت واشنطن تلاحق مادورو لأنه قال “لا”، فإن التاريخ سيسجّل أن في زمن الخضوع العالمي، قال طيار فنزويلي بسيط “نعم” للوطن.

الرابط المختصر

search