الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

04:55 م

علاقة سعر الذهب بالدولار: تاريخ من التنافس والارتباط العكسي وتحولات الأسواق العالمية

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 03:11 م

باسم ياسر

سبائك ذهبية

سبائك ذهبية

تحتل علاقة سعر الذهب بالدولار الأمريكي موقعًا محوريًا في التحليل الاقتصادي والمالي، إذ تمثل هذه العلاقة إحدى الركائز الأساسية لفهم حركة الأسواق العالمية وسلوك المستثمرين في أوقات الرخاء والأزمات على حد سواء.

 فالذهب، بوصفه أقدم مخزن للقيمة في التاريخ، والدولار الأمريكي، باعتباره العملة الاحتياطية الأولى في العالم، يشكلان معًا ثنائية معقدة تتأرجح بين التنافس والتكامل، وتتأثر بعوامل اقتصادية ونقدية وجيوسياسية متشابكة.

وعلى مدار عقود طويلة، ساد الاعتقاد بوجود علاقة عكسية واضحة بين سعر الذهب وقيمة الدولار، حيث يؤدي صعود أحدهما غالبًا إلى تراجع الآخر. 

غير أن التجربة العملية أثبتت أن هذه القاعدة ليست مطلقة، وأن الأسواق الحديثة أكثر تعقيدًا مما تسمح به التفسيرات المبسطة.

 في هذا التقرير، نعيد قراءة علاقة الذهب بالدولار من منظور صحفي تحليلي، نستعرض جذورها التاريخية، ونفكك أسباب الارتباط العكسي، ونرصد العوامل المؤثرة، مع التوقف عند الحالات الاستثنائية التي يكسر فيها الطرفان القاعدة التقليدية.

 الذهب والدولار.. ثنائية تحكمها الثقة والملاذ الآمن

 

يُنظر إلى الذهب والدولار باعتبارهما ملاذين آمنين، لكن كلًّا منهما يؤدي هذا الدور من زاوية مختلفة. فالذهب أصل مادي نادر لا يمكن طباعته أو التلاعب بمعروضه بسهولة، ما يجعله مخزنًا للقيمة عبر العصور، خاصة في أوقات التضخم وفقدان الثقة في العملات الورقية.

 أما الدولار الأمريكي، فهو عملة دولة تمتلك أكبر اقتصاد في العالم، ويتمتع بقبول عالمي واسع، ويُستخدم في تسعير معظم السلع الاستراتيجية، وعلى رأسها النفط والذهب نفسه.

هذا التباين في الطبيعة هو ما يجعل العلاقة بين الذهب والدولار علاقة تنافسية في جوهرها؛ فعندما تزداد الثقة في الاقتصاد الأمريكي وفي قوة الدولار، يتراجع الإقبال على الذهب، والعكس صحيح.

 ومن هنا نشأت فكرة الارتباط العكسي التي أصبحت قاعدة شائعة في التحليل المالي.

 الجذور التاريخية لعلاقة الذهب بالدولار

 

لفهم العلاقة الحالية بين الذهب والدولار، لا بد من العودة إلى الخلفية التاريخية التي ربطت بينهما رسميًا لعقود طويلة. ففي بدايات القرن العشرين، اعتمدت الولايات المتحدة نظام قاعدة الذهب، حيث كان الدولار قابلًا للتحويل إلى ذهب بسعر ثابت، ما فرض على الحكومة الأمريكية الاحتفاظ باحتياطيات ذهبية كافية لتغطية جزء كبير من الكتلة النقدية.

في عام 1913، ومع إنشاء الاحتياطي الفيدرالي، أصبح الدولار مدعومًا بنسبة معتبرة من الذهب، وهو ما منح العملة الأمريكية استقرارًا وثقة عالميين.

 واستمر هذا النظام حتى اندلاع الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي، حين بدأت الضغوط الاقتصادية تفرض مراجعة هذا الربط الصارم.

بعد الحرب العالمية الثانية، أعيد تنظيم النظام النقدي العالمي عبر اتفاقية بريتون وودز عام 1944، التي ربطت الدولار بالذهب عند سعر ثابت بلغ 35 دولارًا للأونصة، وربطت العملات الأخرى بالدولار.

 وبفضل هذا النظام، ترسخت هيمنة الدولار على النظام المالي العالمي، خاصة مع امتلاك الولايات المتحدة نحو ثلاثة أرباع احتياطيات الذهب العالمية في منتصف القرن العشرين.

غير أن هذا النظام لم يصمد طويلًا أمام الضغوط الاقتصادية المتزايدة، وفي عام 1971 أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون إنهاء قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، فيما عُرف بـ”صدمة نيكسون”.

 وبذلك انتهى رسميًا الربط بين الذهب والدولار، ودخل العالم عصر العملات الورقية العائمة.

 ما بعد فك الارتباط.. الذهب سلعة والدولار عملة

 

أدى فك الارتباط بين الذهب والدولار إلى تحول جذري في طبيعة العلاقة بينهما.

 فلم يعد الذهب غطاءً رسميًا للعملة الأمريكية، بل أصبح سلعة يتم تداولها بحرية في الأسواق العالمية، يخضع سعرها لقوى العرض والطلب، شأنها شأن أي أصل آخر.

في المقابل، أصبح الدولار عملة ورقية تستمد قوتها من الثقة في الاقتصاد الأمريكي، وسياسات الاحتياطي الفيدرالي، وحجم الاقتصاد، وليس من غطاء ذهبي مباشر. 

هذا التحول وضع الأساس للعلاقة العكسية الحديثة، حيث بات الذهب يُستخدم كأداة تحوط ضد ضعف الدولار والتضخم، بينما يعكس الدولار قوة السياسة النقدية الأمريكية.

 لماذا تسود العلاقة العكسية بين الذهب والدولار؟

 

رغم تعقيد الأسواق، لا تزال العلاقة العكسية بين الذهب والدولار هي القاعدة الغالبة. ويمكن تفسير ذلك من خلال عدة عوامل مترابطة.

أول هذه العوامل هو كون الذهب ملاذًا آمنًا في مواجهة التضخم وتراجع القوة الشرائية للعملات.

 فعندما يضعف الدولار نتيجة سياسات نقدية توسعية أو ارتفاع معدلات التضخم، يلجأ المستثمرون إلى الذهب للحفاظ على قيمة أصولهم، ما يرفع سعره. 

أما عندما يكون الدولار قويًا ومستقرًا، تقل الحاجة إلى التحوط بالذهب، فيتراجع الطلب عليه.

العامل الثاني يتمثل في تسعير الذهب بالدولار في الأسواق العالمية. فارتفاع قيمة الدولار يجعل الذهب أكثر تكلفة بالنسبة لحائزي العملات الأخرى، ما يؤدي إلى انخفاض الطلب العالمي عليه، وبالتالي تراجع سعره. 

وعلى العكس، فإن ضعف الدولار يجعل الذهب أرخص نسبيًا، ويحفز الطلب عليه، فيرتفع سعره.

أما العامل الثالث فيرتبط بثقة المستثمرين. فعندما تسود الثقة في الاقتصاد الأمريكي وترتفع أسعار الفائدة، يفضل المستثمرون الاحتفاظ بالأصول المقومة بالدولار، سواء كانت سندات أو ودائع، على حساب الذهب الذي لا يدر عائدًا، لكن عندما تهتز هذه الثقة، يعود الذهب إلى الواجهة كخيار آمن.

 السياسة النقدية وأسعار الفائدة.. اللاعب الأكبر

 

تلعب السياسة النقدية الأمريكية دورًا محوريًا في تحديد مسار العلاقة بين الذهب والدولار. فقرارات الاحتياطي الفيدرالي بشأن أسعار الفائدة تؤثر مباشرة على قيمة الدولار، وبالتالي على سعر الذهب.

عندما يرفع الفيدرالي أسعار الفائدة، يصبح الاحتفاظ بالدولار أكثر جاذبية، وترتفع عوائده مقارنة بالذهب، ما يضغط على أسعار المعدن النفيس. 

أما في فترات خفض الفائدة أو تطبيق برامج التيسير الكمي، حيث يتم ضخ سيولة كبيرة في الأسواق، فإن الدولار يضعف، ويستفيد الذهب من هذا الضعف بالصعود.

ولهذا السبب، تحظى تصريحات مسؤولي الفيدرالي وبيانات السياسة النقدية بمتابعة دقيقة من أسواق الذهب، إذ غالبًا ما تشهد الأسعار تقلبات حادة عقب أي إشارة لتغيير المسار النقدي.

 التضخم.. الوقود التقليدي لصعود الذهب

 

يُعد التضخم أحد أهم المحركات التقليدية لأسعار الذهب. فمع ارتفاع معدلات التضخم، تتآكل القوة الشرائية للدولار، ويبحث المستثمرون عن أصول تحافظ على قيمتها الحقيقية، ليأتي الذهب في مقدمة الخيارات.

وعلى الرغم من أن الدولار قد يرتفع اسميًا في بعض فترات التضخم، فإن قيمته الحقيقية المعدلة بالتضخم تتراجع، ما يدعم الطلب على الذهب.

 لذلك غالبًا ما ترتبط توقعات التضخم المرتفع بصعود أسعار الذهب، حتى في ظل تباين حركة الدولار على المدى القصير.

 الأزمات الاقتصادية والجيوسياسية.. اختبار العلاقة

 

تتجلى تعقيدات العلاقة بين الذهب والدولار بشكل أوضح خلال الأزمات. ففي الأزمات المالية التي يكون مركزها الولايات المتحدة، غالبًا ما يضعف الدولار وترتفع أسعار الذهب.

 أما في الأزمات العالمية التي لا تكون أمريكا طرفًا مباشرًا فيها، فقد يتحول كل من الذهب والدولار إلى ملاذين آمنين في الوقت نفسه.

الحروب، والتوترات الجيوسياسية، والأزمات الصحية العالمية، كلها عوامل قد تدفع المستثمرين إلى التمسك بالدولار كعملة سيولة عالمية، وبالذهب كأصل مادي آمن، ما يؤدي إلى ارتفاعهما معًا لفترات مؤقتة.

 العرض والطلب العالمي ودور البنوك المركزية

 

رغم هيمنة الدولار على تسعير الذهب، لا يمكن تجاهل العوامل الخاصة بسوق الذهب نفسه. فالإنتاج العالمي من الذهب محدود نسبيًا، ويصعب زيادته بسرعة، في حين يتنوع الطلب عليه بين الاستثمار والمجوهرات والصناعة.

كما تلعب البنوك المركزية دورًا متزايد الأهمية في سوق الذهب، إذ تسعى العديد من الدول إلى تنويع احتياطياتها وتقليل الاعتماد على الدولار، من خلال زيادة حيازتها من الذهب. 

وقد شهدت السنوات الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في مشتريات البنوك المركزية من الذهب، وهو ما وفر دعمًا إضافيًا لأسعاره، حتى في فترات استقرار الدولار.

 متى يرتفع الذهب والدولار معًا؟

 

رغم شيوع العلاقة العكسية، إلا أن التاريخ سجل فترات ارتفع فيها الذهب والدولار في آن واحد.

 ويحدث ذلك غالبًا خلال الأزمات العالمية الكبرى، حين يبحث المستثمرون عن الأمان والسيولة في الوقت نفسه.

خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، ارتفع الذهب بوصفه ملاذًا آمنًا، كما ارتفع الدولار نتيجة الطلب الهائل عليه كعملة سيولة عالمية. 

وتكرر المشهد جزئيًا خلال فترات التوتر الجيوسياسي الحاد، مثل الأزمات الكبرى التي شهدها العالم في العقد الأخير.

كما قد تشهد الأسواق على المدى القصير تحركات متزامنة للذهب والدولار نتيجة عوامل مضاربية أو بيانات اقتصادية متباينة، لكن هذه الحالات غالبًا ما تكون مؤقتة.

 علاقة ديناميكية لا تخضع لقواعد جامدة

 

في النهاية، يمكن القول إن العلاقة بين سعر الذهب والدولار الأمريكي ليست علاقة ثابتة أو ميكانيكية، بل هي علاقة ديناميكية تتغير بتغير الظروف الاقتصادية والسياسية والنقدية. صحيح أن الاتجاه العكسي يظل القاعدة العامة على المدى المتوسط والطويل، لكن الاستثناءات حاضرة، وتفرض على المستثمرين قراءة المشهد بشكل أشمل.

فهم هذه العلاقة يتطلب النظر إلى السياسة النقدية، والتضخم، والأزمات العالمية، وسلوك البنوك المركزية، وليس الاكتفاء بقاعدة مبسطة تربط صعود أحد الطرفين بهبوط الآخر. وفي عالم تتسارع فيه المتغيرات، يبقى الذهب والدولار في حالة شد وجذب مستمرة، تعكس نبض الاقتصاد العالمي وتحولات الثقة في النظام المالي الدولي.

إقرأ أيضًا:

5 عوامل تؤثر على سعر الذهب عليك فهمها عند التداول

كل ما تريد أن تعرفه عن صناديق الاستثمار المتداولة في الذهب (Gold ETFs)

كيف تبدأ الاستثمار في الذهب؟ دليل المبتدئين 2026

سبائك الذهب أم المشغولات الذهبية: أيهما أفضل للاستثمار؟

الرابط المختصر

search