الأحد، 16 نوفمبر 2025

04:41 ص

علاء الدين رجب يكتب "اليقين" بين الأدلة الرقمية وشهادة الشهود

الأحد، 16 نوفمبر 2025 01:36 ص

المهندس علاء الدين رجب

مهندس علاء الدين رجب – خبير التحول الرقمي

مهندس علاء الدين رجب – خبير التحول الرقمي

يظن الناس ان الثورة التقنية خط مستقيم يصعد الى الأعلى بلا رجوع، وان وسائل الاثبات تتطور دائما في اتجاه واحد: من الشهادة الى الوثيقة، ومن الوثيقة الى التسجيل، ومن التسجيل الى الدليل الرقمي. لكن ما يحدث اليوم يكشف عن مفارقة تاريخية مذهلة: الانسان يعود، رغما عنه، الى الشهادة باعتبارها المصدر الاعلى للوثوق، بعدما تهاوت قداسة الصوت والصورة.


والمفارقة الاخرى ان هذا المشهد لم يفاجئ الفقهاء المسلمين القدامى؛ بل كانوا ينظرون اليه بدهشة لو رأوه اليوم، لأنهم اشترطوا في الشهادة البشرية من شروط العدالة والضبط والعدد ما جعلها في عيون الناس المعاصرين أضعف من دليل التصوير. 

لكن ها نحن نكتشف ان ذلك التشدد لم يكن نقصا، بل حكمة مبكرة من زمن لم يعرف الذكاء الاصطناعي ولا التزييف العميق Deepfake، ولكنه عرف جيدا هشاشة الانسان امام الوهم، وامكان التلاعب بالأدلة.

تلاشي هيبة المقاطع المصورة: سقوط الدليل الذي ظن الناس انه لا يكذب


تنسب تسجيلات الى أشخاص، ثم يخرج آخرون قائلين: هذا تزييف صوتي، ثم يرد فريق ثالث: الذكاء الاصطناعي قادر على فعل أكثر من ذلك. 

وهنا لم يعد السؤال: هل التسجيل حقيقي؟ بل أصبح السؤال: هل يمكن لأي عاقل اليوم أن يجزم بصحة أي تسجيل؟
لقد وصل الأمر إلى حد يجعل الإنسان يتردد في تصديق مقطع لقط أو كلب، فكيف بالأدلة التي تغير مصير دول، وتهز سمعة شخصيات، وتفجر قضايا جنائية؟
الأمر لم يبدأ اليوم، فالتلاعب بالصور والتسجيلات موجود منذ اختراعها، لكن الذي تغير هو العتبة الاخلاقية والتقنية؛ اذ صار بإمكان أي صبي في غرفته أن يصنع صوتا مقنعا، ووجها محاكيا، ومشهدا يصعب كشف زيفه إلا بخبرات عالية.


لقد ماتت الثقة في الصورة وماتت الثقة في الصوت ومات الدليل الذي كان الناس يقولون عنه: الصوت والصورة لا تكذب.

البصمات: عندما سقط الدليل الذي قيل إنه لا يخطئ


من المدهش ان فكرة التلاعب بالأدلة ليست جديدة كما نظن. فحتى البصمات، التي اعتبرها العالم طوال القرن العشرين دليلا قاطعا لا يقبل الشك، تعرضت مبكرا لفضائح كشفت هشاشتها.

 أولى القضايا الشهيرة ظهرت في بدايات القرن الماضي، حين اكتشفت الشرطة البريطانية أن بصمات بعض المشتبه بهم يمكن "زرعها" على الأسطح عبر الضغط بمواد معينة أو باستخدام قفازات رطبة تنقل الخطوط الدقيقة كما هي.

ثم جاءت قضية "فاركاس" في الولايات المتحدة، حيث اتهم رجل بجريمة قتل اعتمادا على "بصمة مثالية" على باب زجاجي، قبل أن يثبت خبراء الطب الشرعي ان البصمة منقولة وليست أصلية، وأن شخصا ما قام بطبعها باستخدام قالب مطاطي. 

كان هذا الاكتشاف صادما في زمن كانت البصمة تعتبر فيه قمة اليقين الجنائي، فاذا بها تتحول من دليل مطلق إلى قرينة قابلة للتلاعب مثل غيرها. 

لقد كشف هذا الحدث المبكر أن الحقيقة لا تسكن في شكل الدليل، بل في سياقه، وفي الإنسان الذي ينقله، وفي المنهج الذي يتحقق منه.

التصوير: حين اكتشف العالم ان الكاميرا يمكن ان تكذب


لم يكد العالم يحتفل بولادة التصوير الفوتوغرافي كعين محايدة للحقيقة حتى ظهرت أولى القضايا التي هزت هذا اليقين.

 ففي بدايات القرن العشرين، شهدت المحاكم البريطانية واحدة من أشهر القضايا التي اثبت فيها الخبراء ان الصور يمكن التلاعب بها بمهارة تكاد تخدع العين المجردة.

كان المتهم يحاول إثبات براءته بصور ادعى انها التقطت له بعيدا عن مسرح الجريمة، لكن المحققين لاحظوا ظلالا غير منسجمة واتجاه ضوء لا يتطابق مع الوقت المزعوم. وعندما فحص الخبراء الالواح الزجاجية الاصلية، اكتشفوا ان الصورة مركبة من لقطتين مختلفتين تم دمجهما في المعمل باستخدام تقنية قص ولصق بدائية لكنها فعالة.

كان هذا الحدث صاعقا في زمن كانت فيه الصورة حديثة العهد، واعتبره كثيرون الدليل الأول على أن الكاميرا ليست شاهدا معصوما، وأنها قد تتحول بسرعة الى اداة تضليل. 

ومع مرور الوقت توسعت أساليب التلاعب، حتى أصبح كشف الزيف فنا قائما بذاته، وانكشفت للعالم حقيقة كانت معروفة للفقهاء منذ قرون: ان الدليل المادي قد يخدع، اما شهادة الانسان العدل فكانت ولا تزال محط التوثيق والوزن.

وهنا يعود الفقه الاسلامي من أفق التاريخ من يقرأ كتب الفقه يرى تعظيما مذهلا لمقام الشهادة: عدالة الشهود، ضبطهم، عددهم، صفتهم، شروطهم، استحلافهم، وتثبت القاضي من أحوالهم. 

وكان كثير من المثقفين المعاصرين يتعجبون: لماذا هذا التشدد؟ أليست الصورة اوضح؟ أليس التسجيل أصدق؟
لكننا نكتشف اليوم أن الشهادة وسط هذا الطوفان الرقمي هي آخر حصن بشري للتوثيق.

إن الفقهاء الذين عاشوا قبل أكثر من ألف سنة كانوا مشغولين بشيء بسيط وعميق: كيف نتحقق من الحقيقة في عالم يمكن الكذب فيه دائما؟
كانوا يدركون ان الإنسان ليس مجرد آلة إدراك، بل كائن أخلاقي تختبر عدالته، وتوزن نياته، وتعرف سوابقه، ويقاس صدقه عبر الزمن. 

أما الصورة، فليس لها نية، وليس لها عدالة، ويمكن لأي أحد اصطناعها. 

وهكذا بدأ الفقهاء بمنظار اليوم وكأنهم قد استشرفوا مبكرا انهيار الأدلة المادية حين تنفصل عن الإنسان وتختزل في بيانات.

اللحظة الحاسمة: نقلة معرفية قادمة
 

ما يحدث اليوم ليس مجرد أزمة تقنية، بل تحول معرفي عميق في مفهوم الحقيقة والمعرفة: فبعد قرن واحد فقط من هيمنة الصورة والصوت كأدلة لا تناقش تعود البشرية الى المربع الاول:  من شهد؟ هل هو عدل؟ هل نعرفه ؟هل نصدقه؟ و هل الخبر يستدل عليه بشهادة أخرى؟

لقد علمنا العالم الرقمي درسا مرا: كل شيء قابل للتلاعب ما دام منفصلا عن صاحبه. 

ولذلك نرى اليوم عودة لاعتبار المقاطع المصورة قبل 2023 أكثر وثوقا، ليس لأنها معصومة، بل لأن مستوى التلاعب لم يكن قد بلغ هذا الحد. ومع ذلك، يبقى الشك سيد الموقف.

الشهادة ليست مجرد قول بل منظومة كاملة


في الفقه الاسلامي، لم تكن الشهادة مجرد كلمة تقال، بل كانت بنية معرفية وأخلاقية متكاملة منها  شهود عدول و تحقق من الملابسات و قرائن وأحوال و سوابق وسياق و توثيق بشري طويل الامد و مسؤولية امام الله قبل المجتمع، لهذا لم يكن الفقهاء يعتبرونها شهادة بلا وزن، بل كانوا يعاملونها كأصل يدل على الحقيقة اكثر من اي وثيقة صامتة.
واليوم نرى العالم يعود لهذه المنهجية من حيث لا يشعر: يتراجع الناس عن الوثوق في الصورة ويعودون للتركيز على الفاعل لا الملف على الانسان لا البيانات.

تفرد المسلمين في حفظ التراث الديني


من اللافت أن المسلمين لم يكتفوا بوضع شروط صارمة للشهادة في المحاكم، بل تجاوزوا ذلك إلى مستوى أدق حين تعلق الأمر برواية الحديث النبوي. 

فبينما يكفي في القضاء شاهدان عدلان، لم يقبل علماء الحديث خبرا عن النبي إلا بعد فحص دقيق لسلسلة الرجال واحدا واحدا، ومعرفة سيرتهم، وصدقهم، وأمانتهم، وذاكرتهم، وطريقة ضبطهم، وحتى البلدان التي عاشوا فيها ومن لاقوه ومن لم يلاقوه.

لقد بنى المسلمون منهجا نقديا لم يعرفه أي تراث إنساني آخر، يقوم على دراسة الأسانيد كلمة كلمة، ورجل رجل، ويجمع بين علم الرجال، والجرح والتعديل، ومقارنة المتون، وتاريخ الرواية، والرحلات، وطرق التحمل والأداء. 

وفي كثير من الحالات كان العلماء يردون رواية راوى ثقة بسبب خطأ واحد، او اضطراب في ذاكرته في اخر عمره، او لان المتن لا ينسجم مع رواية أوثق.

بهذا التشدد الفريد صنع المسلمون ارشيفا معرفيا لا مثيل له، يتعامل مع الحقيقة الدينية بصرامة تفوق صرامتهم في الشهادة القضائية نفسها. 

وكأنهم يقولون من خلال هذا المنهج الدقيق ان الدين لا يبنى الا على اليقين، وأن نقل كلام النبي يحتاج إلى معايير تفوق كل معايير البشر في المعرفة، وهو أمر ندرك قيمته اليوم حين نرى كيف تنهار الادلة الرقمية، بينما يبقى المنهج النقدي الذي وضعه العلماء شاهدا على عبقرية حفظ التراث عبر العصور.

المخطوطات : لماذا لا ترقى لليقين الذي تصنعه الشهادة


على الرغم من القيمة التاريخية العظيمة للمخطوطات، فإنها في ميزان التحقيق الشرعي والمعرفي لا ترقى الى مستوى اليقين الذي يصنعه اجتماع الشهود. 

فالمخطوطة وثيقة صامتة، منفصلة عن سياقها، لا نعرف بيئة كاتبها ولا حالته النفسية ولا سبب كتابته ولا الضغوط التي احاطت به.

قد تكون منقولة عن أصل لا نعرفه، أو محرفة، او مدخلا عليها في زمن لاحق، وقد تضيع منه صفحات او تتداخل حواش وتعديلات لا يمكن كشفها بسهولة. 

أما اجتماع الشهود فهو واقعة انسانية كاملة، لها سياقها الحي، وتفاصيلها، وملابساتها، وشخوصها، ومسؤولية كل واحد منهم امام الله والناس، مع امكان استجوابهم وتفريق اقوالهم ومقارنة شهاداتهم ومعرفة عدالة كل واحد منهم.

ولهذا قدم الفقهاء شهادة العدول على كل وثيقة صامتة، لان الإنسان هو حامل السياق، ولأن الحقيقة لا تعيش في النص وحده، بل في الذاكرة، والنية، والشخص، والبيئة التي ولد فيها الخبر.

وفي زمن ينهار فيه اليقين الرقمي، نفهم لماذا كان العلماء يميزون بين خبر مكتوب وجماعة تشهد على أمر عيان، فالمخطوطة لا تقدم سوى حبرا على ورق، اما اجتماع الشهود فيقدم حياة كاملة تروي الحقيقة كما وقعت.

هل نحن أمام انهيار معرفي أم فرصة


قد يظن البعض أن نهاية ثقة الناس بالأدلة الرقمية تعني فوضى عارمة، لكن الحقيقة أن التاريخ يخبرنا بأن سقوط الأدلة المادية الزائفة يفتح الباب لعودة الأدلة الإنسانية:
( العدالة، السمعة، القرائن، الشهود، السير الذاتية،  التزكية، السياق الاجتماعي)

انه ليس انهيارا بل عودة الى الحكمة الأولى ، الحقيقة لا تعرف من ملف صامت، بل من انسان يتحمل مسؤولية قوله. وما ترونه اليوم من انهيار اليقين الرقمي ليس نهاية العالم، بل بداية عالم جديد يعيد ترتيب مصادر المعرفة، ويعيد الانسان الى قلب عملية التحقق.

 عندما يعود الانسان الى مركز الحقيقة


لقد بنى القرن العشرون وهما كبيرا: أن الحقيقة تسكن الصورة، وأن العدالة تنطق عبر التسجيلات، وأن التقنية أعلى من الإنسان. لكن القرن الحادي والعشرين جاء ليقول بصوت واضح:

لا توثيق خارج الإنسان ولا معرفة بلا شاهد ولا حقيقة بلا ضمير.

هذه العودة ليست ترفا فكريا، بل ضرورة وجودية للدفاع عن الحقيقة في عصر يمكن فيه تزييف كل شيء إلا الصدق؛ الصدق الذي لا يصنع ولا يفبرك، ولا يصدر إلا من إنسان يعرف أن شهادته أمانة، وأن الحقيقة أكبر من كل ادوات العالم.

الرابط المختصر

search