الأحد، 16 نوفمبر 2025

02:07 م

البروفيسور غانم كشواني يكتب: الوجودية والتعليم

الأحد، 16 نوفمبر 2025 12:25 م

البروفيسور غانم كشواني

البروفيسور غانم كشواني

الأسئلة الوجودية عن الوجود والعدالة الإلهية، لطالما كانت في ذهن البشرية في مختلف العقب من عمر البشرية، ومن مختلف الأديان والمذاهب. هذه الأسئلة الكبرى مثل سبب وجود الخلق، والعدالة الإلهية، والغاية من الحياة نفسها، ليست مجرد تساؤلات عابرة، بل هي محركات أساسية لبناء الفكر الإنساني، ولتطوّر الحضارات، ولتشكل الوعي الجمعي للأمم. فالإنسان بطبيعته يسأل، ويبحث، ويفكر، ويريد أن يعرف مكانه في هذا الكون، ولماذا وجد، وكيف يفهم العلاقة بين الخالق والمخلوق، وبين الحياة والموت، وبين العدالة الإلهية وما يجري من أحداث في الدنيا.

هذه الأسئلة الوجودية كانت هي نقطة البداية لنشوء الفلسفة، ثم العلم، ثم التعليم. وكلما تعمّق الإنسان في سؤال الوجود، تعمّق في التعلم، لأن المعرفة هي محاولة لملء الفراغ بين السؤال واليقين. ولذلك فإن الوجودية ليست فلسفة مجردة، بل هي جذر كل عملية تعليمية حقيقية.

وانتشر مؤخرًا فيديو جميل للدكتور نايف بن نهار، يذكر فيه أن مركزية التعليم يجب تكون محوريّتها على الرشد لأنه هو الغاية، وأن التعليم هو الأداة. هذا الطرح يعيد التساؤل حول وظيفة التعليم نفسها. لأن الحاصل حاليًا أن التعليم أصبح غاية، أو ختي أداة لوظيفة، بينما المفترض أن يكون التعليم في جوهره طريقًا نحو الرشد، نحو الحكمة، نحو اكتشاف الإنسان لرسالته في الحياة. حين ينحصر التعليم في الشهادات أو الوظائف، يفقد دوره الوجودي، ويتقلص دوره الحضاري، ويصبح مجرد أداة مادية لا تصنع إنسانًا واعيًا.

وبالنسبة لي، لو رزقنا الله سبحان أن أقود مؤسسة تعليمية عالية مختصة للبحث العلمي، سيكون شعار الجامعة وهدفها الأساسي هو: "صناعة الوعي والرشد من أجل إعمار الأرض".

هذه العبارة بالنسبة لي ليست شعارًا إداريًا، بل رؤية متكاملة لوظيفة التعليم. فببساطة لأن الهدف الأساسي من خلقنا هو عبادة الرحمن سبحانه وإعمار الأرض، فإن التعليم ينبغي أن يكون الأداة التي تُنشئ الإنسان القادر على تحقيق هذا الهدف. أدوات الجامعة ليست مجرد مناهج ومحاضرات، بل منظومة لبناء الإنسان الواعي الذي يرى العلم وسيلة لترك أثر طيب.

وسواء كان الإنسان مهندسا، طبيبا، مدرسا، أو صاحب أي مهنة، فإن التعليم يمكن أن يلعب الدور فيه ليكون جزءًا من إعمار الأرض. الفرق بين مهندس يملك وعيًا وجوديًا، وبين مهندس يملك معرفة فقط، يشبه الفرق بين من يبني جدارًا ومن يبني رسالة. الأول يبني بإحساس الغاية، والثاني يؤدي مهمة. كذلك الطبيب والمدرس وكل صاحب مهنة: الوعي هو ما يجعل العمل عبادة، ويجعل المهنة وسيلة للإصلاح، ويجعل الشهادة أداة لتعمير الحياة وليس فقط للحصول على وظيفة.

إن التعليم الذي يضع الرشد غايته، يصنع إنسانًا قادرًا على السؤال، على التفكير، على اتخاذ القرار، على فهم علاقته بالله وبالوجود. وهذا النوع من التعليم يعيد الجامعات إلى دورها الحقيقي: أن تكون مصانع للوعي، لا مصانع للشهادات. وأن تكون منارات لتشكيل الإنسان، لا منصات لتخرّيج موظفين فقط.

وحين يصبح التعليم بهذا المعنى، يتحول البحث العلمي إلى بحث عن الحقيقة، لا مجرد عدد من المنشورات. ويتحوّل الطالب إلى متعلم يبحث عن معنى، لا مجرد متلقٍ للمعلومات. وتتحول الجامعة إلى مؤسسة رسالية تساهم في بناء حضارة، تبدأ من الذات وتنتهي بإعمار الأرض.

وفي النهاية، فإن الوجودية والتعليم وجهان لعملة واحدة. فالوجودية تطرح السؤال، والتعليم يقدّم الطريق، والإنسان يسير بينهما ليصل إلى الرشد. وعندما يتحقق الرشد، يتحقق الهدف: عبادة الرحمن، وإعمار الأرض بالأثر الطيب.

Prof. Ghanim Kashwani 
PhD, CEng, FICE
16 Oct 2025

الرابط المختصر

search