علاء البدري يكتب: "فاطمة" ووجع غياب قبر أبيها: من حكايات "النكبة السورية"
الجمعة، 21 نوفمبر 2025 04:30 م
رئيس التحرير
كتبت ووثقت في كتابي "النكبة السورية" حكايات، رواها لي أصحابها خلال رحلتي الصحفية لمناطق الحرب والنزوح للعائلات السورية، التي اجبرت على ترك كل شيء، هربا من الدمار والقتل والترويع. "فاطمة" حكاية من ضمن تلك الحكايات التي سمعتها ووثقتها بكل ألم وأسى..
فاطمة.. هذا هو أسمها الذي لا استطيع أن أنساه، رغم مرور أعوام عدة منذ أن ألتقيتها هناك. في هذه المنطقة الحدودية النائية الموحشة التي تسكنها العقارب والثعابين، نبتت فيها أعشاب بين حجارة وصخور ماؤها القسوة والظمأ الذي لا ينحصر إلا في فصل الشتاء القارص.
وجدتها وهي عالقة مشردة على الحدود الأردنية السورية كلاجئة بلا مأوى، بسبب دنس الكبار، وشرور المؤامرات، والسياسة التي أجبرتها أن تسكن في خيمة بالية بلا وتد، ولم تجد غير العراء تتلحف به.
أوجعتني كلماتها وهي تسرد لي قصة هروبها من القتل والقصف والتشرد والضياع.. تاركة وراءها أمها وأخوتها، وجثة أبيها الذي قتل غدرا تحت انقاض منزلهم العتيق، دون أن تعرف مقبرة باسمه سيدفن بها، ولا أي مصير ينتظر أمها وأشقائها الثلاثة نادر ومحمود وعلي، الذين حملوا السلاح مثل الكثير من الشباب هناك رغم سنهم الصغير دفاعا عن قضية وطن، أصبح بمرور الوقت مكانا و ملتقى لصراع قوى الشر في العالم.
إنها فاطمة صاحبة الكلمات المؤلمة.. فاطمة الفتاة الصغيرة التي أثارت انتباهي عندما اقتربت من الخيام التي تم تشييدها في أجواء قاحلة بلا خدمات أو مرافق، وجدتها تنظر إلى الشاحنة التي تحمل المساعدات الغذائية والدوائية بلا اكتراث، ولم تفعل مثلما فعلت باقي قريناتها من الفتيات المهجرات اللاجئات ساكنات الخيام، اللاتي أسرعن للحصول على كيس أرز أو دقيق، أو بعض الملابس أو الأغطية.
لم تكترث أبدا بما تحمله الشاحنة من مؤن ضرورية وهامة، فالأمر كله لا يعنيها ولا يهمها.. فكيف تهتم وهي روح مقتولة مذبوحة، دون أي مبرر ولا منطق ولا عقل يفهم ما حدث لها ولأسرتها؟.
وجدت في وجه فاطمة ملامح امرأة كبيرة عابسة بلا روح ولا أمل، لكنها فاجأتني بقولها أن عمرها لم يتعد السابعة عشرة عاماً، لم أصدق حينها إلا بعد أن تمعنت كثيراً في وجهها، واكتشفت صدق كلامها. فتاة صغيرة شقراء بملامح ذهبية بلون الشمس، عيناها واسعتان مليئتان ألما ووجعا، رغم أنهما يستحقان كل الحياة وكل الأمل.
أجبرت فاطمة على الرحيل، تاركة وراءها كل شيء، حتى جثة أبيها الذي مات تحت حوائط بيتهم الكبير والعتيق، بعد أن تهدم فجأة بسبب صاروخ قذفته إحدى الطائرات التي تجوب سماء منطقتهم ليل نهار، ودون أن يتمكن أحد من أفراد أسرتها إنقاذه، أو حتى منحه حق مواراة جثمانه الثرى.
لم يستطيعوا ذلك إلا بعدها بأيام، وفي ليلة مظلمة، خوفا من القصف الأرعن الذي لا ينقطع، وأخبروها بعدها أنهم تمكنوا من استخراج جثته ودفنه في مقبرة جماعية أعدوها خلسة في حديقة حارتهم، ضمت جثثا لضحايا كثيرين، قتلوا تحت وابل النيران والقنابل .
روت تفاصيل مقتل أبيها.. كانت كلماتها البسيطة القصيرة تقطر حزنا ووجعا، وحملت نظرات عينيها، كل آلام الدنيا وقهر الظلم إلي لا يعرف إلا الضعفاء، كي ينزل عليهم عقابه دون ذنب أقترفوه، أو جريرة اقترفوها.
قتل أبي الرجل المسالم الطيب القوي.. سند العائلة كلها، وترملت أمي وتيتمت أنا وأخوتي، لا أستطيع نسيان مشهد موته ولا صراخ أمي، خرجنا كلنا من البيت بعد أن حذرنا الجيران من القصف وبراميل البارود، وأننا جميعا نحن سكان الحي يجب أن نغادر لمنطقة أخرى أكثر آمنا، وغادرنا كثيرا وكثيرا دون أن نجد أمانا.
وتأخر أبي داخل البيت كثيرا كثيرا ولم يعد حتى الآن، وذهب أشقائي حاملين السلاح بحثا عن قاتله المجرم الخسيس، وظلت أمي هناك وسط القصف، وجئت أنا إلى هنا وحيدة بعد أن ضاع شمل الأسرة.
قالت إنها تركت أمها وأشقاءها في قريتهم بدرعا، وانضمت إلى خالتها رغما عنها، بعد أن صممت أمها بشدة وهي تبكي عويلا وصراخا أن تغادر الحي والمنطقة وسوريا كلها، خوفا عليها من همجية الشبيحة الذين يستبيحون أعراض النساء حتى أجساد الفتيات الصغيرات... وخرجت في رحلة الهروب الطويلة التي استغرقت على حد قولها 15 يوماً، رغم قرب المسافة بين المنطقتين الحدوديتين، التي تستغرق في الظروف العادية ساعات قليلة، فبين كل متر يسيرونه يختبئون في الجحور وبين الحجارة والصخور النابتة على المنطقة الحدودية بين سوريا والأردن، هربا من القصف ومطاردات أشباح من البشر.
فاطمة لا تفهم الأسباب التي أجبرتها على الهروب من بيتها وقريتها، وأن تترك أسرتها.. أكدت في روايتها وهي تنظر إلى خيمتها والصخور النابتة في كل مكان، أن عائلتها كانت تمتلك بيتاً كبيراً في درعا، به غرف كبيرة وكثيرة، ومكانا خاصا للطبخ، وحمامين كبيرين، وحديقة كبيرة كانت تلعب فيها عندما كانت صغيرة.
وأجبرهم تهدم البيت والأحداث الدامية المتلاحقة على ترك كل شيء، هرباً من طلقات الرصاص والمدافع وأعمال القتل، ليتنقلوا جميعاً وفي كل يوم من منطقة لأخرى، بحثاً عن الآمن الذي سرعان ما يغيب.
روت كلماتها هذه، وهي تنظر إلي المكان المحيط بها، الأرض القاحلة والصخور والأعشاب الصحراوية التي تعودت على الظمأ وانعدام المياه التي لا تأتي إلا نادراً، لتفاجئني بقولها الآن أنا وأقاربي نعيش في هذه الخيام بلا صنبور مياه، ولا مكان لقضاء الحاجة يسترني أنا وباقي الفتيات، ولا حجرة أغلقها عليّ وأنا نائمة.
وأخيرا.. قالت لي قبل أن تتركني متجهة نحو طفلة صغيرة تبكي بشدة، دون أن تكترث بالدمية غالية الثمن التي بين يديها المتسختين، والتي حصلت عليها للتو من قافلة المساعدات، كيف ستساعدون أمي وأشقائي في مصيبتهم هناك؟.
ألقت سؤالها الملح وهي تشير بيديها إلى منطقة الأسلاك الشائكة الشاخصة أمامنا، ثم أشارت مجددا بكلتا يديها إلى ما بعد الحدود داخل الأراضي السورية، وزادتها بسؤال موجع هل ستجدون لأبي مقبرة تحمل أسمه.. “سعدون علي عبد الرحمن”؟!.
الرابط المختصر
آخبار تهمك
تحليل نهاية الأسبوع: تدفق البيانات يبقي التقلبات مرتفعة في الأسواق العالمية
21 نوفمبر 2025 02:46 م
تأخر صدور بيانات الوظائف لشهر سبتمبر يكشف عن مرونة السوق
20 نوفمبر 2025 04:35 م
سعر الدرهم الإماراتي اليوم في مصر 20 -11- 2058
20 نوفمبر 2025 02:19 م
سعر اليورو اليوم في مصر 20 -11- 2025
20 نوفمبر 2025 01:56 م
سعر الريال السعودي اليوم في مصر 20 -11- 2025
20 نوفمبر 2025 01:53 م
سعر الدولار اليوم في مصر 20 -11- 2025
20 نوفمبر 2025 01:49 م
الأكثر قراءة
-
أحمد محارم يكتب: في حضرة السفير الدكتور سامح أبو العينين يتجلّى وجهُ مصرَ
-
جامعة القاهرة: تعاون أكاديمي وبحثي موسع مع كوريا الجنوبية
-
خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف اليوم 21 نوفمبر 2025م ـ 30 جمادى الأولى 1447هـ
-
تعرف على رد فعل بسمة بوسيل بعد وصف ابنتها تاليا لدينا الشربيني بالساحرة
-
منتخب مصر يحدد موعد انطلاق معسكره التحضيري لأمم أفريقيا 2025
-
محاضرة لأحمد عبد الرؤوف للاعبي الزمالك استعدادًا لمباراة زيسكو
-
بيراميدز يواجه ريفرز يونايتد بزيه الأساسي في دوري أبطال إفريقيا
-
جدول مباريات الجولة 12 من الدوري الإنجليزي بعد انتهاء التوقف الدولي
-
جمال سلامي يعلن القائمة النهائية لمنتخب الأردن المشاركة في كأس العرب 2025
-
معلول وبن رمضان على رأس قائمة منتخب تونس في بطولة كأس العرب
-
محاضرة لأحمد عبد الرؤوف للاعبي الزمالك استعدادًا لمباراة زيسكو
-
بيراميدز يواجه ريفرز يونايتد بزيه الأساسي في دوري أبطال إفريقيا
-
علاء البدري يكتب: "فاطمة" ووجع غياب قبر أبيها: من حكايات "النكبة السورية"
-
جدول مباريات الجولة 12 من الدوري الإنجليزي بعد انتهاء التوقف الدولي
-
توقعات الأبراج وحظك اليوم الثلاثاء 25-11-2025
أكثر الكلمات انتشاراً