الإسلام حضارةٌ تصنعُ الإنسان قبل أن تُحاكِمَه: صفحاتٌ ناصعة من عدلٍ لا يَعرفُ التحيُّز
الأربعاء، 03 ديسمبر 2025 12:04 م
د/ مصطفى طاهر رضوان
د/ مصطفى طاهر رضوان عضو هيئة التدريس بقسم العقيدة والفلسفة – جامعة الأزهر الشريف
إنَّ الإسلامَ في أبهى لحظات إشراقه، وأنقى تجلّيات رُوحه، وأسمى مقاصد رسالته قدّم للإنسانية نموذجًا لا يُجارَى في كيفية التعامل مع "الآخر"، ذلك التعامل الَّذي لا يقوم على استعلاء المتكبرين، ولا على انغلاق المتحفّظين، ولا على خوف المنعزلين، بل ينبثق من قلبٍ مطمئنّ إلى ربِّه، واثقٍ برسالته، منفتحٍ على الناس جميعًا.
فقد كان النبيُّ ﷺ يمضي بين أهل الكتاب كما يمضي بين قومه: يحضر ولائمهم، ويزور مجالسهم، ويواسي مصابهم، ويدخل معهم في كل المعاملات التي يقتضيها العيشُ المشترك ووحدةُ المصير.
وكان ﷺ يقترض منهم ويرهن عندهم متاعه، لا عن فاقةٍ ولا عجز، فبين أصحابه مَن لو استسلفه رسول الله لبذل له ما يشاء، وإنما فعل ذلك ليصنع درسًا عمليًّا خالدًا: أن الإسلام لا ينسخ وشائج الحياة بين البشر، ولا يقطع حبال المودّة والمعاملة، بل يعلّم الأمة أن تبني صلاتها مع غيرها على السِّلم والوئام، في ظلِّ وطنٍ واحد ومصلحةٍ واحدة.
ويوم كان عمرُ بن الخطابِ رضي الله عنه في الشام، ووافقت الصلاة وجودَه في كنيسة القيامة، دعاه البطريق للصلاة فيها، وكاد عمرُ أن يستجيب، ثم امتنع لا لأن الكنيسةَ مكانٌ لا تُقام فيه الصلاة، ولكن لأنَّه خشي أن يجيء مسلمٌ في زمنٍ لاحق فيستدلّ على فعله فيزعم أن الكنيسة صارت مسجدًا، فينتزعها من أهلها ظلمًا وعدوانًا، فكتب لأصحابه أن لا يُصلُّوا على الدرجة التي صلّى عليها إلا واحدًا واحدًا، بلا أذانٍ ولا اجتماع.
وهذه السماحة ليست تسامحًا عابرًا يُوقف عند حدود اللحظة، بل سماحةٌ واعيةٌ نافذةُ النظر، تُدرك أثرَ الفعل اليوم على أجيال الغد، وتخشى أن تُترك ذريعةٌ يسوء بها التأويل، فيقع ظلمٌ لم يرده صاحبه ولم يخطر بباله.
ويُروى أنه بينما كان عمرُ يسير في الشام مرّ بقومٍ من نصارى أذرعات يستقبلونه باللعب بالسيوف والريحان كما تجري عادتهم مع العظماء، فقال: «رُدُّوهم وامنعوهم» كراهيةً للزينة ومظاهر الملك.
فقال له أبو عبيدة بن الجراح: «يا أمير المؤمنين، هذه عادتهم، وإنك إن تمنعهم يظنوا أنك تضمر نقض عهدهم»، فابتسم عمر وقال: «دعوهم، عمر وآل عمر في طاعة أبي عبيدة».
إنما أطاعه لأنه خشي أن يتوهّم الناس في قلبه كراهيةً لهم أو رغبةً في نقض عهدهم، فغيّر عادته، وغضّ طرفه عن مظاهر كان يكرهها، ليبقى العهد أرفع من الذوق الشخصي، وأغلى من كل اعتبار.
وقد عُرف عنه أيضًا أنه كان يُنصِف النصارى واليهود إذا شَكَوْا ولاةَ المسلمين؛ فلما بلغه أن الوليدَ بن عقبة قد توعّد نصارى بني تغلب خشي عليهم الظلم، فعزله وولّى غيره.
ورأى يومًا رجلًا ضريرًا يسأل، فلما علم أنه يهودي ألزَمَ الدولةَ برعايته، وقال كلمته الخالدة: «ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم». وأمر أن تُجرى للعجزة والمرضى من النصارى أرزاقٌ من بيت المال.
وسار عبدالله بن عمر على خُطى أبيه؛ فقد كان يقول لغلامه حين يسْلَخ الشاة: «ابدأ بجارنا اليهودي»، مكرّرًا وصية النبيِّ ﷺ بالجار حتى خشي الصحابة أن يورّثه.
وعطف عثمانُ بن عفّان على شاعرٍ نصرانيٍّ هو أبو زبيد، ولم ير الصحابةُ بأسًا في الاستعانة بأهل الذمة في وظائف الدولة؛ فاتخذ عمرُ كتّابًا من أسرى قيصرية، ثم اتخذ أبو موسى الأشعري كاتبًا نصرانيًا، وتوسع معاوية في استخدام النصارى، ومنهم طبيبه ابن أثال الذي ولاه خراج حمص.
ولم تزل المناصب الكبرى في بلاط الخلافة مفتوحةً لهم؛ فالأخطل كان شاعرَ البلاط الأموي، ويوحنا الدمشقي كان مستشارًا لعبدالملك بن مروان، و"أثناس" النصراني تولّى تعليم أخي الخليفة، ثم صار من كبار رجال مصر.
القضاء والحقوق… حين كان الإسلام ميزانًا من نور
في القضاء كان الإسلام يمشي في الأرض كأنَّه ميزانُ عدلٍ معلَّقٌ بين السماء والأرض؛ لا يرفع المسلم لكونه مسلمًا، ولا يخفض الذمّيّ لكونه غير مسلم. وقد تجلّى هذا حين وقف يهوديٌّ يشكو عليًّا رضي الله عنه أمام عمر، فأمر عمرُ الإمامَ عليًّا أن يجلس إلى جوار خصمه، فلما ناداه بكنيته «قم يا أبا الحسن»، وجد عليٌّ في نفسه شيئًا يسيرًا، خشيةَ أن يظن اليهودي أنّ في النداء تفضيلًا يسيرًا.
إنها حساسيةُ العدالة، ورقّةُ ضميرٍ لا يدع للتمييز بابًا يُفتَح ولو بكلمة.
وتكرّر المشهد في العصر العباسي حين رفع الأمير إبراهيم بن المهدي صوتَه على الطبيب النصراني بختيشوع عند القاضي أحمد بن أبي داؤد، فزجره القاضي وألزمه أدب مجلس الحكم، فاستحيا الأمير، وتنازل عن عقارٍ كان له إرضاءً للطبيب ومحوًا لزلّته.
وقد تقرّرت أحكامٌ ثابتةٌ في الفقه عبر القرون: تساوي المسلم والذمّي في القصاص، والديات، والتعازير، وسريان أحوالهم الشخصية على شرائعهم، ومنع الإرث باختلاف الدين، وإباحة طعام أهل الكتاب وذبائحهم، وجواز الزواج بالكتابيّة مع صونها وتركها على دينها، ومنع تزويج المسلمة لغير المسلم حمايةً لدينها وذريّتها.
وظلَّ أهل الكتاب يتمتعون بحرية دينية كاملة؛ يرفعون نواقيسهم، ويُجددون كنائسهم، ويبنون ما شاءوا من دور عبادتهم.
ولم يسجّل التاريخ حادثةً واحدة زمن الفتوح أُكره فيها أهل الكتاب على الإسلام، أو هُدمت كنيسةٌ لهم. بل كان المسلمون أحيانًا يعينونهم على البناء والتجديد، كما في عهد عمر، وعمرو بن العاص، وعبدالملك بن مروان، وخالد القسري، وغيرها من الشواهد التي نقلها مؤرخون مسلمون وغير مسلمون.
حقوق المال… وذمةُ العهد
وكان مالُ الذمّي مصونًا كمال المسلم؛ فقد قال ﷺ:
«من ظلم معاهدًا، أو انتقصه حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة».
فجعل خصمَ الظالم يوم القيامة هو رسول الله نفسه.
وأجاز الإسلام للناس جميعًا، مسلمهم وذمّيّهم، التعاملَ والتهادي والتزاور، بل أجاز دفع الصدقة للذمّي الفقير. وفي الركاز يتساوى الجميع في الخُمس ويملكون الباقي. فالعدل في المال كالعدل في الدم، سواءٌ في شرع الله.
إن هذه النماذج ـــ وغيرها من صفحات التاريخ الإسلامي الأولى ـــ ليست زخارف تُنسى، ولا مواعظ تُتلى، بل هي شهاداتٌ ساطعةٌ كتبها التاريخ بمدادٍ من إنصاف، واعترف بها الخصم قبل الصديق، والمنصف قبل المتعصّب:
أن الإسلام دينٌ حضاريٌّ في نصوصه، حضاريٌّ في تطبيقه، حضاريٌّ في أثره.
فلا تهزّ هذه الحقائقَ صيحاتٌ جوفاء، ولا تشكّك فيها كلماتٌ ملوّثة تصرخ من هنا أو هناك… فالنور لا تُطفئه الأصوات، والحقُّ لا تغطيه الظنون.
الرابط المختصر
آخبار تهمك
اجتماع تنسيقي بين وزيري التخطيط والمالية لتعزيز استقرار الاقتصاد
03 ديسمبر 2025 10:51 ص
سعر اليورو أمام الجنيه اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
03 ديسمبر 2025 09:05 ص
سعر الدولار أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
03 ديسمبر 2025 09:00 ص
سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
03 ديسمبر 2025 08:56 ص
سعر الجنيه الإسترليني أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
03 ديسمبر 2025 08:52 ص
سعر الدرهم الإماراتي أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
03 ديسمبر 2025 08:44 ص
الأكثر قراءة
-
علاء ثابت مسلم يكتب: ماذا سأفعل لو أصبحت وزيرا للتعليم؟
-
الإسلام حضارةٌ تصنعُ الإنسان قبل أن تُحاكِمَه: صفحاتٌ ناصعة من عدلٍ لا يَعرفُ التحيُّز
-
توقعات برج الجوزاء لشهر ديسمبر 2025.. فرص جديدة وعلاقات مميزة تلوّن ختام العام
-
سعر اليورو أمام الجنيه اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
-
سعر الريال السعودي أمام الجنيه المصري اليوم الأربعاء 3 ديسمبر 2025
-
الجارحي يطمئن على الترتيبات النهائية لبطولة إفريقيا لسيدات السلة
-
الأهلي يواجه هليوبوليس في مؤجلات دوري المحترفين لكرة اليد
-
موعد مباراة بيراميدز وكهرباء الإسماعيلية في الدوري المصري
-
موعد مباراة منتخب مصر ضد الإمارات في كأس العرب 2025 والقنوات الناقلة
-
الزمالك يتراجع عن بيع لاعبيه بعد اقتراب انفراجة مالية
أكثر الكلمات انتشاراً