الجمعة، 05 ديسمبر 2025

03:18 م

هشام المغربي يكتب: المصريون شعب توافقي

الجمعة، 05 ديسمبر 2025 01:47 م

هشام المغربي

هشام المغربي

التوافق هو الانسجام بين الفرد وبيئته كما يعرفه علماء الاجتماع وعلماء الانثربولوجي، وهو توافق يجعله يتماهى مع متطلبات الحياة بشكل عام ومع احتياجاته المعيشية اليومية، أو هي التغلب على النواقص والإحباطات لتحقيق حد أدنى من السلام النفسي للتعايش داخل المجتمع.
قدرة المصريين على التوافق ربما قدرة متفردة، لم أراها في شعوب كثيرة من حولنا، ولكي أكون أكثر وضوحاً فيما ذهبت إليه سأعرض الأمثلة الآتية:
عندما احتدت أزمة رغيف الخبز في مصر وبدأت ظاهرة الطوابير الطويلة أمام المخابز بسبب قلة عددها، مقارنة بالزيادة المطردة في أعداد السكان وجدنا توجه أعداد كبيرة من المصريين لإقامة مخابز أهلية، وشراء الدقيق بسعر حر وليس السعر المدعوم من الدولة وفقاً لسعر السوق، وتم إقامة تلك المخابز في كل شارع أو حارة صغيرة تخدم سكانها، وهي من الممكن تسميتها بمشروعات صغيرة أو ربما متناهية الصغر، تتمثل في مخبز لا تتعدى مساحته الثلاثة أمتار في مترين أو ثلاثة يكفي بالكاد لإعداد العجين وتقطيعه داخل المخبز، أما الفرن فيوضع على رصيف المخبز في الشارع أمام المارة، وهو فرن بسيط مصنوع في مصر أيضاً من مكونات بسيطة، ويعمل بأنابيب الغاز ويقدم خبزاً أغلى قليلاً من خبز التموين المدعوم، ولكنه أسهم بلا شك في الحد من ظاهرة الطوابير الغفيرة والتزاحم وربما التقاتل على رغيف خبز أمام مخابز الخبز المدعم من الدولة، وربما لاتخضع تلك المخابز للمواصفات القياسية المطلوبة لإقامة مخبز، والتي تضعها الجهات الرقابية المختلفة بداية من الحد الأدنى للمساحة المسموح بها، ووصولاً إلى الأمن الصناعي واشتراطات السلامة العامة وإشراف وزارة الصحة ووزارة التموين وهيئة التأمينات الاجتماعية وهيئة سلامة الغذاء وغير ذلك من جهات، ولأنهم شعب متوافق فلم يتذمروا أو يعترضوا أو يمتعضوا لعدم توافر رغيف خبز دون عناء، بل  أقاموا المخابز دون انتظار لأية إجراءات حلاً للمشكلة من المنظور الجماهيري البحت الذي كل مايعنيه هو التوافق .
مثال آخر، فنجد الأهالي في بعض الحارات والشوارع الضيقة قد خشيت على أولادها من سرعة الدراجات النارية ( الموتوسيكيلات ) والسيارات الكبيرة والتكاتك، فقاموا طواعية بعمل مطبات صناعية من الأسمنت والرمل بمواصفات غير هندسية وبشكل بدائي، بهدف الحد من سرعة هذه المركبات التي باتت تهدد حياتهم وحياة أطفالهم ولم تنتظر الدولة لتقدم لهم الحلول، مع الوضع في الاعتبار أن كافة المطبات المقامة ربما تضر بالمركبات كونها غير مدروسة، ولكنه الحل من المنظور الشعبي أيضاً !
وعندما اشتدت أزمة الإسكان أقاموا بيوتاً على الأراضي الزراعية بعد تجريفها أو على أملاك الدولة وبعشوائية شديدة جداً وبارتفاعات غير قانونية، ومعظم هذه الأبنية ليست خاضعة لأي دراسات هندسية أو أسباب علمية، بل وأغلبها دون تراخيص رسمية وهي بيوت ربما تهدد قاطنيها أنفسهم ولكنه من المنظور الشعبي هو الحل !
وهناك مثال آخر بالإسكندرية عندما احتدت أزمة وسائل النقل العامة في نهاية السبعينيات وأوائل عقد الثمانينيات، كان عدد حافلات النقل العام بدأ في التناقص كنتيجة طبيعية لعدم الصيانة الدورية أو الإحلال والتجديد للحافلات التي انتهى عمرها الافتراضي وعدم قدرة الوزارة على شراء حافلات جديدة، بعد الخروج من دوامة الحروب التي طالت لفترات طويلة أو غير ذلك من أسباب أدت لهذه النتيجة . فماذا فعل شعب الإسكندرية؟
اجتمع بعض أصحاب رؤوس الأموال مع بعض السائقين وأقاموا مشروعاً جديداً، وهو شراء عدد وفير من الأتوبيسات الصغيرة ( ميني باص) أو ( ميكروباص) تعمل في خطوط محددة هي الأكثر طلباً من الجمهور، وسميت تلك السيارات في الإسكندرية تحديداً بـ (المشروع )، واستمر هذا الاسم إلى اليوم فنحن المدينة الوحيدة التي تطلق على هذه السيارات كلمة (المشروع) .
كان هذا أيضاً حلاً توافقياً أوجدته الإرادة الشعبية التوافقية التي تميز المصريين, على الرغم من المساوىء العديدة لهذا المشروع ومن بينها عشوائية السائقين وعدم التزامهم بالقواعد المهنية الصحيحة للمهنة، وعشوائية المواقف التي أوجدوها لأنفسهم في الميادين العامة والشوارع الرئيسية وعدم التزامهم بمحطات ثابتة، فهو يصول ويجول في كافة الشوارع وعدم التزامهم أيضاً بتعريفة ثابتة واضحة للأجرة، ومهما كانت قدرة إدارة المرور على الردع والتحكم، إلا إنها لن تسيطر على هذا الكم الكبير من السائقين!
وبعد ذلك ظهرت ظاهرة التوكتوك، وهذه لها قصة أخرى بدأت من خلال اقتراح قدمه أحد المسؤولين، وتم استيراد عدد محدود كبداية وسرعان ما انتشرت بسرعة انتشار النار في الهشيم !
وقد يتسائل البعض وأين التوافقية هنا؟
الإجابة أنه تم استغلال هذا الكم الوفير من هذه العربات لحل أزمة البطالة، وهي مشكلة لم تجد لها الدولة حلا واستقطبت المتسربين من التعليم وبعض الخريجين ممن لايجد عملا مناسبا له، وأصبح عدد هذه المركبات أكبر من أي تصور مبدئي لصاحب الفكرة أو للمستورد نفسه!
و مازلنا نعاني منها حتى اليوم وهي كانت حلاً من وجهة النظر الشعبية للبطالة ولقلة دخل الأسرة، ولكن كانت سلبياتها أكثر من نفعها وما أحدثته بالمجتمع أضره أكثر مما ساعده واتجه الكثيرون نحو شراء التوكتوك أو العمل عليه لما يدره من دخل كبير سريع دون جهد يذكر، وأدى ذلك لهجر الحرف اليدوية كونها لن تحقق لهم ما تحققه هذه الآلة ذات الثلاث عجلات من دخل يومي أو شهري بالآلاف من الجنيهات! ولكنه التوافق أيضاً فهذه طبيعة الشعب!
وعندما أصبحت بعض القنوات الفضائية مشفرة، وليس في مقدور الكثيرين دفع الاشتراكات المبالغ فيها لأصحاب القنوات ومندوبيهم ووكلاءهم ماذا حدث؟ 
أقاموا مراكز بث للقنوات المشفرة بأجور زهيدة شهرياً على أسطح العمارات! وناهيك عن كونها سرقة علنية من صاحب الحق، إلا أنها أيضاً تسببت في تلوث بصري شديد جداً بسبب الأسلاك الممدودة بين العمارات وبعضها البعض وعدم التزامهم بقواعد مهنية متحضرة للتعامل مع المشتركين، وغير ذلك من سلبيات لتلك المشروعات .   
والأمثلة على التوافق العشوائي مع الأزمات كثيرة جداً حولنا في كافة الميادين والمجالات، ولكنها تعكس طبيعة خاصة جداً لهذا الشعب وهي الطبيعة التوافقية، ربما في دول أخرى من العالم تتحول الأزمة أو المشكلة إلى صراع أو إضراب أو مظاهرة أو احتجاج، يعكس مدى الغضب الجارف لمعضلة ما؟.. أما في مصر فيلجأ الشعب إلى التوافق مع المشكلة والالتفاف حولها، محاولاً أن يجد الحل أو أن يستثمر موقف أو حالة لعلاج أزمة، رغم ما يسببه هذا التوافق من عشوائية شديدة جداً تصل إلى الفوضى أحياناً، ولكنه دائما لديه الحل.
وعلى الجانب الآخر وبعد استفحال الموقف ووصوله لنقطة اللاعودة، تبدأ الدولة تتذكر أن هناك خطر داهم ولكن يصبح الحل أكثر صعوبة إن لم يكن مستحيلاً، ويصبح تدخلها معقدا جداً ومكلفا جداً وربما كانت هذه الكلفة ليست مادية فقط، ولكنها قد تكلفها وجودها ذاته إن لم تتعامل معها بحكمة وبطريقة علمية مدروسة.
خلاصة القول ليس دائما ما تفرش الحلول التوافقية طريقا مفروشا بالورود، ولكن تلك الورود لها أشواك  قد تدمي أقدام السائرين فوقها.  

الرابط المختصر

search