الثلاثاء، 30 ديسمبر 2025

06:22 م

البروفيسور غانم كشواني يكتب: عندما يلتقي النوبل بالأوسكار

الثلاثاء، 30 ديسمبر 2025 04:10 م

البروفيسور غانم كشواني

البروفيسور غانم كشواني

في بعض اللحظات النادرة، لا يكون الفن مجرد تعبير جمالي، ولا يكون العلم مجرد معادلات صامتة، بل يلتقيان ليشكّلا رؤية واحدة للعالم. واحدة من هذه اللحظات تجسّدت بوضوح في عام 2014 مع فيلم Interstellar، حين بدا وكأن السينما فتحت بابًا على الكون، لا بوصفه خيالًا مطلقًا، بل باعتباره احتمالًا علميًا مدروسًا.

الفيلم، الذي أخرجه Christopher Nolan، لم يكن عملًا سينمائيًا تقليديًا في إطار الخيال العلمي. صحيح أنه حصد لاحقًا جوائز كبرى، من بينها الأوسكار، لكن قيمته الحقيقية لم تكن في الجوائز بقدر ما كانت في منهجيته. نولان لم يكتفِ بسرد قصة مؤثرة عن الزمن والحب والبقاء، بل سعى إلى الاقتراب قدر الإمكان من الحقيقة الفيزيائية للكون، حتى لو كان ذلك على حساب السهولة أو التبسيط.

ما جعل التجربة فريدة حقًا هو مشاركة عالم الفيزياء النظرية Kip Thorne، أحد أبرز المتخصصين في النسبية العامة والثقوب السوداء، والحاصل لاحقًا على جائزة نوبل في الفيزياء. وجوده لم يكن شكليًا أو استشاريًا محدودًا، بل كان جزءًا أساسيًا من بناء العالم البصري والعلمي للفيلم. المعادلات التي تحكم تشوّه الزمكان، وتمدد الزمن، وسلوك الثقوب السوداء، لم تُكتب لأجل المشهد فقط، بل استُخدمت فعليًا في تصميم الصورة السينمائية.

في Interstellar، لم يُقدَّم الثقب الأسود كرمز غامض أو بوابة سحرية، بل كجسم كوني تحكمه قوانين صارمة. الصورة التي شاهدها الجمهور لم تكن خيالًا حرًّا، بل محاكاة علمية مبنية على النسبية العامة. في ذلك الوقت، كان شكل الثقب الأسود لا يزال افتراضًا نظريًا لم يُرصد بصريًا من قبل، ومع ذلك بدت الصورة السينمائية مقنعة، متماسكة، وقريبة من المنطق الفيزيائي.

بعد خمس سنوات فقط، في عام 2019، جاء الحدث الذي نقل هذه الفرضيات من شاشة السينما إلى الواقع العلمي. أعلن Event Horizon Telescope، أو كما نفضّل تسميته هنا: تلسكوب هورايزن (Event Horizon Telescope)، عن أول صورة حقيقية لثقب أسود في تاريخ البشرية. لم يكن التلسكوب جهازًا واحدًا، بل شبكة عالمية من المراصد الراديوية موزعة حول الأرض، تعمل معًا وكأنها تلسكوب بحجم كوكب كامل.

عندما ظهرت الصورة، كانت الصدمة هادئة وعميقة في آن واحد. حلقة مضيئة تحيط بظل مظلم، صورة بسيطة في شكلها، لكنها ثقيلة في معناها. المفاجأة لم تكن في وجود الثقب الأسود، فذلك كان متوقعًا علميًا، بل في التشابه اللافت بين هذه الصورة الحقيقية وما شاهده الناس قبل سنوات في Interstellar. لم يكن التطابق كاملًا، لكنه كان قريبًا بما يكفي لطرح سؤال جوهري: هل سبق الفن العلم بخطوة؟

الجواب لا يكمن في التفوق، بل في التكامل. الفن في هذه الحالة لم يسبق العلم بخيال عشوائي، بل بخيال منضبط علميًا. السينما استخدمت لغة الصورة لتجسيد معادلات لم يكن بالإمكان رؤيتها بعد، بينما جاء تلسكوب هورايزن لاحقًا ليحوّل اللغة نفسها إلى بيانات وصورة حقيقية. الأدوات اختلفت، لكن المرجعية واحدة: الفيزياء.

هذه القصة تكشف جانبًا فلسفيًا عميقًا في العلاقة بين الفن والعلم. العلم يفسّر الكون، والفن يجعله قابلًا للإدراك الإنساني. وعندما يعمل الاثنان معًا، لا يكون الفن ترفًا، ولا يكون العلم جافًا، بل يصبحان معًا وسيلة لفهم أعمق للوجود. ما فعله Interstellar أنه مهّد الوعي الجمعي لتقبّل فكرة وصورة الثقب الأسود، وعندما جاءت الحقيقة العلمية، بدت مألوفة، لا غريبة.

لهذا، فإن اجتماع النوبل مع الأوسكار هنا ليس مصادفة، بل نتيجة طبيعية لمسار واحد يسعى إلى الحقيقة من زوايا مختلفة. فيلم شارك في صناعته عالم نال نوبل، وتأكيد علمي جاء لاحقًا بأداة تُعد من أعقد المشاريع العلمية في التاريخ، كلاهما يقول شيئًا واحدًا: عندما يُبنى الجسر بين الفن والعلم بإخلاص وعمق، يسبق الخيال الواقع بخطوة، ثم يأتي الواقع ليؤكد أن هذا الخيال كان قريبًا جدًا من الحقيقة.

Prof. Ghanim Kashwani (GK)

PhD, CEng, FICE 

Dec 2025

الرابط المختصر

search