الجمعة، 30 مايو 2025

08:49 ص

محمد مطش يكتب: التفاوت الاجتماعي والسلام المجتمعي

الخميس، 29 مايو 2025 10:46 ص

محمد مطش

محمد مطش

تعد قضية الفقر والتفاوت الاجتماعي، من أخطر التحديات التي تواجه المجتمعات الإنسانية، وخاصة في المنطقة العربية، حيث تُلقي بظلالها الكثيفة على كافة مناحي الحياة، مهددةً بتآكل النسيج الاجتماعي، وتقويض أسس التنمية والاستقرار. وهي ليست مجرد أرقام واحصائيات، بل هي واقع يومي مؤلم يعيشه ملايين البشر، يحرمهم من أبسط مقومات الحياة الكريمة، ويُلقي بهم في براثن اليأس والإحباط.

 وقد تعددت الآراء وتباينت التعريفات حول معنى الفقر واشكاله، ولكن كثيرا من المختصين بقضايا المجتمع اشتركوا فيما بينهم على تعريف الفقر بأنه حالة الحرمان من الموارد الأساسية اللازمة للعيش بكرامة، مثل الغذاء، المأوى، الرعاية الصحية، والتعليم. لكن الفقر ليس نوعًا واحدًا بل يتخذ أشكالًا متعددة، فهناك الفقر المطلق وهو أخطر أنواعه، ويعني عدم القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء على قيد الحياة، مثل الحصول على كمية كافية من الطعام والماء الصالح للشرب، يُقاس عادةً بخط فقر دولي محدد مثل العيش بأقل من 2.15 دولار في اليوم، وهناك الفقر النسبي وهو الحرمان من الموارد والفرص اللازمة للمشاركة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع الذي يعيش فيه الفرد، مقارنةً بمتوسط دخل أفراد المجتمع، ففي المجتمعات المتقدمة قد لا يكون الفرد قادرًا على امتلاك سيارة أو منزل خاص وهو ما قد يعتبر فقرًا نسبيًا، وهناك الفقر البشري ويتجاوز هذا المفهوم الجانب المادي، ليشمل الحرمان من الفرص الأساسية للتنمية البشرية مثل عدم القدرة على الوصول إلى التعليم الجيد، الرعاية الصحية اللائقة، أو مياه الشرب النظيفة، وهناك الفقر العابر وهو يحدث نتيجة لظروف طارئة مثل الكوارث الطبيعية، الحروب، أو الأزمات الاقتصادية المفاجئة، وقد يكون له تأثيرات قصيرة أو متوسطة الأجل، وهناك الفقر الدائم وهو الأشد خطورة، ويشير إلى الفقر الذي يستمر لسنوات طويلة، وقد ينتقل من جيل إلى جيل، مما يخلق حلقات مفرغة من الحرمان. كلها اشكال وصور متعددة لأشكال الفقر وانواعه.  

ولا يقتصر تأثير الفقر على الجانب المادي فحسب، بل يمتد ليشمل أبعادًا نفسية واجتماعية عميقة، خاصة في المجتمعات العربية التي تُعرف بترابطها الاجتماعي وقيمها الأسرية، مثل اليأس والإحباط وفقدان الأمل، ويُعد هذا من أبرز التداعيات النفسية للفقر، عندما يرى الفرد أن أبواب الفرص مغلقة أمامه، وأن جهوده لا تُثمر، يتملكه شعور باليأس، وقد يفقد الأمل في مستقبل أفضل له ولأسرته، هذا الشعور قد يدفع البعض إلى الانعزال أو الانخراط في سلوكيات سلبية، ايضاً تدهور الصحة النفسية حيث يرتبط الفقر ارتباطًا وثيقًا بزيادة معدلات الاكتئاب، القلق، واضطرابات ما بعد الصدمة، خاصةً في المجتمعات التي تشهد نزاعات أو أزمات اقتصادية، والضغوط المستمرة لتأمين لقمة العيش، والشعور بالدونية، وعدم القدرة على تلبية احتياجات الأبناء، وكلها عوامل تُساهم في تدهور الصحة النفسية، كذلك التفكك الأسري حيث يُشكل الفقر ضغطًا هائلًا على الأسر، مما قد يؤدي إلى زيادة معدلات الطلاق، العنف الأسري، وحتى التخلي عن الأبناء في بعض الحالات القصوى، و يسعى بعض أفراد الأسرة إلى الهجرة غير الشرعية بحثًا عن لقمة العيش، مما يُشتت الأسر ويزيد من معاناتها، كما ان التهميش والإقصاء من الابعاد السيئة للفقر، حيث يؤدي الفقر إلى تهميش شرائح واسعة من المجتمع، وحرمانهم من المشاركة الفاعلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، هذا الإقصاء يفاقم من مشاعر الإحباط ويُعزز من التفاوت الاجتماعي. كما ان ارتفاع معدلات الجريمة والتطرف يظهر مع الفقر حيث تُظهر الدراسات وجود علاقة بين الفقر وبين ارتفاع معدلات الجريمة، فاليأس والحاجة يدفعان البعض إلى ارتكاب أفعال تُخالف القانون، كما يمكن أن يُشكل الفقر أرضًا خصبة لانتشار الأيديولوجيات المتطرفة التي تستغل حاجة الشباب وتقدم لهم وعودًا زائفة، كذلك التسرب من التعليم وزواج القاصرات في المجتمعات الفقيرة، فقد تُجبر الأسر على سحب أبنائها من المدارس ليعملوا ويُساهموا في دخل الأسرة، مما يُحرم الأجيال القادمة من فرص التعليم ويُخلد دائرة الفقر. كما تُعد ظاهرة زواج القاصرات من المشكلات الاجتماعية الخطيرة التي تتفاقم في ظل الفقر، حيث تُجبر الفتيات الصغيرات على الزواج لتخفيف العبء المادي عن أسرهن.

 إن مكافحة الفقر والتفاوت الاجتماعي ليست رفاهية، بل هي ضرورة حتمية لضمان مستقبل مزدهر ومستقر للمجتمعات العربية، يتطلب ذلك دراسة شاملة ومتكاملة، تُركز على عدة محاور، كما اكدت عليها العديد من الأبحاث الاجتماعية، وأشار اليها خبراء علم الاجتماع، أولها تعزيز التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة، حيث تهدف السياسات الاقتصادية إلى تحقيق نمو يشارك فيه الجميع، ويُوزع عوائده بشكل عادل، ويتطلب ذلك تنويع مصادر الدخل، ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وخلق فرص عمل لائقة للشباب، والاستثمار في القطاعات المنتجة.

 ثانيا الاستثمار في التعليم وتطوير رأس المال البشري، حيث يُعد التعليم مفتاحًا للخروج من دائرة الفقر. يجب توفير فرص تعليم جيد وشامل للجميع، من الطفولة المبكرة وحتى التعليم العالي والمهني، كما يجب أيضًا ربط مخرجات التعليم باحتياجات سوق العمل، لضمان حصول الخريجين على وظائف مناسبة. 

ثالثا توفير شبكات الأمان الاجتماعي الفعالة، فيجب على الحكومات توفير برامج دعم اجتماعي مستهدفة للفقراء، مثل المساعدات النقدية المشروطة، وبرامج الغذاء، والتأمين الصحي الشامل. هذه الشبكات تُساهم في تخفيف حدة الفقر وتُحمي الأسر الأكثر ضعفًا.  

رابعا تطبيق العدالة الضريبية حيث يجب إعادة النظر في الأنظمة الضريبية، لضمان عدالة توزيع الأعباء، بحيث يدفع الأغنياء حصة أكبر من الضرائب، وتُستخدم هذه الإيرادات لتمويل الخدمات الأساسية وبرامج التنمية. خامسا مكافحة الفساد لأنه يُعد آفة تُنهك المجتمعات وتُبدد ثرواتها، وتُعمق من الفقر والتفاوت. يجب تعزيز الشفافية والمساءلة، وتطبيق قوانين صارمة لمكافحة الفساد بجميع أشكاله.

سادسا دعم ريادة الأعمال والابتكار، حيث تُساهم ريادة الأعمال في خلق فرص عمل جديدة وتنمية الاقتصاد، ويجب توفير البيئة المناسبة لدعم رواد الأعمال، وتسهيل الحصول على التمويل والتدريب، وتشجيع الابتكار. سابعا تمكين المرأة والشباب، حيث تُعد مشاركة المرأة والشباب الكاملة في الحياة الاقتصادية والسياسية ضرورية لتحقيق التنمية المستدامة، ويجب إزالة العقبات التي تُعيق مشاركتهم، وتوفير الفرص المتساوية للجميع.

وبناء على ما تم ذكره، وخطورة قضية الفقر واتساع الهوية الاجتماعية داخل المجتمعات، أصبح من الضروري على كل راعٍ مسئول عن رعيته، وإلى كل موكل عن شؤون الناس، أن يسعى سعياً جاداً لتطبيق العدل، والقضاء على ظاهرة الفقر، ليس فقط لاعتبار ذلك مجرد واجب أخلاقي أو إنساني، بل هو ضرورة حتمية لضمان استقرار مجتمعاتنا وتقدمها.

 ان العدل هو أساس الملك، فلا يمكن لأي مجتمع أن يزدهر ويستقر في ظل وجود فوارق اجتماعية صارخة، وظلم يطال شرائح واسعة من المواطنين، كما أن الفقر يولد الكراهية واليأس، ويُشعل فتيل الفتن، ويُضعف من تماسك المجتمع، مع الاخذ في الاعتبار إن القضاء على الفقر وتضييق الفجوة بين الأغنياء والفقراء، هو استثمار في الأمن والاستقرار، وفي مستقبل الأجيال القادمة.

على الجميع أن يسعوا جاهدين، بكل ما أوتوا من قوة وسلطة، لتطبيق العدل في كل شؤون الحياة، هذا يشمل توزيع الثروات بشكل عادل، وتوفير فرص متساوية للجميع في التعليم والصحة والعمل، ومحاربة الفساد بكافة أشكاله، كما يجب أن تكون موارد الوطن في خدمة جميع أبنائه، وليس فئة قليلة محظوظة.

اسعوا دائمًا لنشر العدل والقضاء على التفاوت الاجتماعي الصارخ داخل المجتمع، اعملوا على بناء مجتمعات أكثر تماسكًا وإنتاجًا، حيث يشعر كل فرد بأنه جزء لا يتجزأ من هذا النسيج، وأن له حقوقًا وعليه واجبات، وعندما يشعر المواطن بأن حقوقه مصونة، وأن فرصته في النجاح ليست رهينة بوضعه الاجتماعي أو الاقتصادي، فإنه سيكون أكثر عطاءً وإنتاجية وولاءً لوطنه.

إن مستقبل المجتمعات العربية يعتمد بشكل كبير على قدرتها على معالجة قضية الفقر، والتفاوت الاجتماعي بجدية ومسؤولية، لأنها معركة ليست سهلة، ولكنها ضرورية وملحة، تتطلب إرادة سياسية قوية، وتكاتف الجهود من جميع الأطراف، لكي نُسلم الأجيال القادمة مجتمعات أكثر عدلًا، إنصافًا، وازدهارًا.

search