الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025

05:44 م

توقير كبار السن وإكرامهم

خطبة الجمعة القادمة للدكتور خالد بدير 28 نوفمبر 2025م ـ 7 جمادى الآخرة 1447هـ

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2025 04:38 م

السيد الطنطاوي

مصلون "أرشيفية"

مصلون "أرشيفية"

حدَّدت وزارة الأوقاف، موضوع خطبة الجمعة القادمة بتاريخ 28 من نوفمبر 2025م، الموافق 7 من جمادى الآخرة 1447هـ، وستكون الخطبة الأولى بعنوان “توقير كبار السن وإكرامهم ”.

وذكرت وزارة الأوقاف، أن الهدف من موضوع الخطبة "توقير كبار السن وإكرامهم"، هو التوعية التوعية بأهمية تكريم كبار السن ورعاية أصحاب الفضل وإنزال الناس منازلهم. 

وينشر “المصري الآن” نص خطبة الجمعة القادمة 21 نوفمبر 2025م، للدكتور خالد بدير، بعنوان “توقير كبار السن وإكرامهم”

 

عناصر خطبة الجمعة القادمة 28 نوفمبر 2025م ، للدكتور خالد بدير ، بعنوان : توقير كبار السن وإكرامهم : كما يلي:

أوّلًا: حثُّ الإسلامِ على توقيرِ كبارِ السّنِّ وإكرامِهِمْ.

ثانيًا: تَوقيرُ كبارِ السّنِّ وإكرامُهُمْ صُوَرٌ وقِصَصٌ.

ثالثًا: ثَمَراتٌ وفَوَائِدُ تَوقيرِ كبارِ السّنِّ وإكرامِهِمْ.

 

ولقراءة خطبة الجمعة القادمة 21 نوفمبر 2025م ، للدكتور خالد بدير ، بعنوان : توقير كبار السن وإكرامهم: كما يلي:

خُطبةٌ بعنوانُ: توقير كبار السن وإكرامهم.

٧ جمادى الآخرة 1447هـ الموافق 28 نوفمبر 2025م

المـــوضــــــــــوعُ

الحمدُ للهِ نحمدُهُ ونستعينُهُ ونتوبُ إليهِ ونستغفرُهُ ونؤمنُ بهِ ونتوكلُ عليهِ ونعوذُ بهِ مِن شرورِ أنفسِنَا وسيئاتِ أعمالِنَا، ونشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له وأنَّ سيِّدَنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ ﷺ. أمَّا بعدُ:

إِنَّ احترامَ كبارِ السنِّ وتوقيرَهم قيمةٌ عليا من القيمِ الإسلاميةِ، ومن هذا المنطلقِ أطلقتْ وزارةُ الأوقافِ مبادرةَ “صححْ مفاهيمَك” لتصحيحِ المفاهيمِ المغلوطةِ، ونشرِ قيمِ الاحترامِ والتوقيرِ، ومنها: موضوعُ هذا اللقاءِ تحتَ عنوانَ: “توقيرُ كبارِ السنِّ وإكرامُهم”. وذلك من خلالِ العناصرِ الثلاثةِ التاليةِ:

أوّلًا: حثُّ الإسلامِ على توقيرِ كبارِ السّنِّ وإكرامِهِمْ.

لقد اهتمَّ الإسلامُ اهتمامًا كبيرًا بالمسنينَ وكبارِ السنِّ والشيوخِ؛ وذلك لأنهم في مرحلةِ الضعفِ العمريةِ؛ والإنسانُ أحوجُ ما يكونُ للعونِ والمساعدةِ في هذه المرحلةِ؛ وقد أشار القرآنُ الكريمُ إلى مراحلِ الإنسانِ العمريةِ في قولِه تعالى:{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ( الروم : 54). وقد قيلَ قديمًا: أن الطفولةَ قوةٌ لا عقلَ لها؛ وأن الشيخوخةَ حكمةٌ لا قوةَ لها، والشبابُ يجمعُ الاثنينَ القوةَ والحكمةَ.

وأولى كبارِ السنِّ بالتوقيرِ والإكرامِ هما الأبوانِ، ولا سيما في كبرِ سنِّهما. قال تعالى: { (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا}. (الإسراء: 23). يقول الإمامُ القرطبيُّ رحمه الله: “خَصَّ حالةَ الكِبَرِ لأنَّها الحالةُ التي يحتاجانِ فيها إلى برِّه لتغيّرِ الحالِ عليهما بالضعفِ والكِبَرِ، فأُلزِمَ في هذه الحالةِ من مراعاةِ أحوالِهما أكثرَ ممّا أُلزِمَهُ من قبلُ، لأنهما في هذه الحالةِ قد صارا كلًّا عليه، فيحتاجانِ أن يليَ منهما في الكِبَرِ ما كان يحتاجُ في صغرِه أن يَلِيَا منه”. (تفسير القرطبي).

لهذا حثَّنا الرسولُ ﷺ على رعايةِ المسنينَ وذوي الشيبِ وكبارِ السنِّ؛ فعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:” إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ؛ وَحَامِلِ الْقُرْآنِ غَيْرِ الْغَالِي فِيهِ وَالْجَافِي عَنْهُ؛ وَإِكْرَامَ ذِي السُّلْطَانِ الْمُقْسِطِ”. (أبو داودَ والطبرانيُّ بسندٍ حسنٍ). وهو القائلُ ﷺ: ” لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا” [ أحمدُ والترمذيُّ والحاكمُ وصحَّحَهُ ]. وَكانَ ﷺ: إذا تَحَدَّثَ عندَهُ اثنانِ بأمرٍ ما بدأَ بأكبرِهما سنًّا، وقالَ: {كَبِّرْ كَبِّرْ} [ مُتَّفَقٌ عليه ]. قالَ ابنُ بطَّالٍ: “ يَنْبَغِي تَقْدِيمُ ذِي السِّنِّ في الطَّعامِ والشَّرابِ والكلامِ والمشيِ والكِتابِ، وقولُه: {كَبِّرْ كَبِّرْ}: يُريدُ لِيَتَكَلَّمَ الأكبرُ، وهذا مِنْ بابِ أدبِ الإسلامِ”. [ شَرْحُ صَحِيحِ البُخَارِيِّ لابنِ بطَّالٍ ].

وقد ربَّى الرسولُ ﷺ صحابتَهُ الكرامَ على هذه القيمِ النبيلةِ، فعن أبي سعيدٍ رضي اللهُ عنهُ قالَ: ” لقَدْ كُنْتُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ ﷺ غُلَامًا، فَكُنْتُ أَحْفَظُ عنْهُ، فَما يَمْنَعُنِي مِنَ القَوْلِ إلَّا أنَّ هَا هُنَا رِجالًا هُمْ أَسَنُّ مِنِّي ”. (مسلمٌ)

وعَنْ مالِكِ بنِ مِغْوَلٍ، قالَ: كُنْتُ أَمْشِي معَ طَلْحَةَ بنِ مُصَرِّفٍ، فَصِرْنَا إلَى مَضِيقٍ فَتَقَدَّمَنِي ثُمَّ قالَ لِي: ” لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ أنَّكَ أَكْبَرُ مِنِّي بِيَوْمٍ ما تَقَدَّمْتُكَ “ (الخطيبُ البغداديُّ في الجامعِ)،

وعَنِ ابنِ عمرَ – رضي اللهُ عنهما – قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ ﷺ:” أَخْبِرُونِي بشَجَرَةٍ مَثَلُها مَثَلُ المُسْلِمِ، تُؤْتي أُكُلَها كُلَّ حينٍ بإذْنِ رَبِّها، ولا تَحُتُّ ورَقَها، فَوَقَعَ في نفسي أنَّها النَّخْلةُ، فَكَرِهْتُ أنْ أتَكَلَّمَ، وثَمَّ أبو بكرٍ وعُمرُ، فَلَمَّا لَمْ يَتَكَلَّما، قالَ النبيُّ ﷺ: هي النَّخلةُ، فَلَمَّا خَرَجْتُ مع أبي قُلتُ: يا أبَتاهُ، وقَعَ في نفسي أنَّها النَّخلةُ، قالَ: ما مَنَعَكَ أنْ تَقُولَها، لو كُنْتَ قُلْتَها كانَ أحبَّ إلَيَّ مِنْ كذا وكذا، قالَ: ما مَنَعَنِي إلَّا أنِّي لَمْ أرَكَ ولا أبا بكرٍ تَكَلَّمْتُما فَكَرِهْتُ”. (البخاريُّ).

يقولُ الإمامُ ابنُ حجرٍ رحمه الله: “وَقَعَ في نفسِ ابنِ عمرَ أنَّها النَّخلةُ، ولكنَّه استَحْيا أنْ يَذكُرَ ما في نفسِه توقيرًا لأكابرِ الصحابةِ الحاضرينَ الذين لم يَعرِفوها”. (فتحُ الباريِ).

إنَّ الإسلامَ حفظَ للإنسانِ كرامتَهُ وتوقيرَهُ، فأمرَ بإكرامِه عندَ شيبتِه وحثَّ على القيامِ بشؤونِه، وهو النموذجُ الذي جسَّدتْهُ ابنتا شعيبٍ عليهِ السلامُ اللتانِ قالتا: {لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} (القصصُ: 23).

إنَّ الإسلامَ حثَّنا على الأخلاقِ العاليةِ والبرِّ والإحسانِ مع المسنينَ مسلمينَ وغيرِ مسلمينَ؛ حتى في الحروبِ والغزواتِ!! ففي الحربِ التي تأكلُ الأخضرَ واليابسَ وتزهقُ فيها الأرواحُ وتدمَّرُ المدنَ والقرى ويموتُ الصغيرُ والكبيرُ؛ أمرَ الإسلامُ بحسنِ معاملةِ الضعفاءِ من الأطفالِ والنساءِ والشيوخِ المسنينَ. فعَنْ سليمانَ بنِ بُريدةَ، عن أبيهِ، قالَ: ” كانَ رسولُ اللهِ ﷺ إذا أمَّرَ أميرًا على جيشٍ، أوْ سريةٍ، أوصاهُ في خاصتِه بتقوى اللهِ ومن معهُ من المسلمينَ خيرًا، ثمَّ قالَ: اغزُوا باسمِ اللهِ في سبيلِ اللهِ، قاتلوا من كفرَ باللهِ، اغزُوا ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثُلوا، ولا تقتلوا وليدًا”. (مسلمٌ).

فلا يجوزُ أن يُقصدَ بالقتالِ مَن ليسوا بأهلٍ له، كالنساءِ والأطفالِ والشيوخِ، والزَّمنى والعُمي والعجَزةِ، والذين لا يباشرونهُ عادةً كالرهبانِ والفلاحينَ، إلَّا إذا اشتركَ هؤلاءِ في القتالِ وبدؤوا هم بالاعتداءِ، فعندها يجوزُ قتالُهم.

وهذا أبو بكرٍ – رضي اللهُ عنه – لمَّا بعثَ يزيدَ بنَ أبي سفيانَ إلى الشامِ على ربعٍ من الأرباعِ، خرجَ – رضي اللهُ عنه – معهُ يوصيهِ، ويزيدُ راكبٌ وأبو بكرٍ يمشي. فقالَ يا يزيدُ: …… لا تقتلوا كبيرًا هرمًا، ولا امرأةً، ولا وليدًا. ولا تخربوا عمرانًا، ولا تقطعوا شجرةً، إلَّا لنفعٍ، ولا تعقرنَّ بهيمةً إلَّا لنفعٍ، ولا تحرقنَّ نخلًا، ولا تغرقنَّهُ، ولا تغدرْ، ولا تمثِّلْ، ولا تجبنْ، ولا تغلُلْ، ولينصرنَّ اللهُ من ينصرُهُ ورسلهُ بالغيبِ، إنَّ اللهَ قويٌّ عزيزٌ” [البيهقيُّ في الكبرى]. هذه صورٌ إكرامٍ وتوقيرٍ وتقديرٍ للضعفاءِ والمسنينَ في حالِ الحربِ؛ فما بالكَ في حالِ السلمِ؟!!

انظرْ إلى أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ – رضي اللهُ عنه – حينَ مرَّ ببابِ قومٍ وعليهِ سائلٌ يسألُ: شيخٌ كبيرٌ ضريرُ البصرِ، فضربَ عضدَهُ من خلفهِ وقالَ: من أيِّ أهلِ الكتابِ أنتَ؟! قالَ: يهوديٌّ، قالَ: فما ألجأكَ إلى ما أرى؟! قالَ: أسألُ الجزيةَ والحاجةَ والسنَّ، قالَ: فأخذَ عمرُ بيدِه وذهبَ بهِ إلى منزلِه فرضخَ له بشيءٍ من المنزلِ ثم أرسلَ إلى خازنِ بيتِ المالِ فقالَ: انظرْ هذا وضرباءَهُ، فواللهِ ما أنصفناهُ أنْ أكلنا شبيبتهُ ثم نخذلَهُ عند الهرمِ ”إنما الصدقاتُ للفقراءِ والمساكينِ” والفقراءُ هم المسلمونَ، وهذا من المساكينِ من أهلِ الكتابِ، ووضعَ عنهُ الجزيةَ وعن ضربائهِ. (الخراجُ لأبي يوسفَ).

أبعدَ كلِّ هذا التسامحِ وحسنِ المعاملةِ للمسنينَ والضعفاءِ من المسلمينَ وغيرِ المسلمينَ، يُتَّهَمُ الإسلامُ بأنَّهُ دينُ تطرفٍ وعنفٍ وإرهابٍ!!

ثانيًا: تَوقيرُ كبارِ السّنِّ وإكرامُهُمْ صُوَرٌ وقِصَصٌ.

لقد ضربَ لنا رسولُ اللهِ ﷺ أروعَ الأمثلةِ في حسنِ التعاملِ مع كبارِ السنِّ والرفقِ بهم؛ ومن ذلك توقيرُهُ ورفقُهُ بأبي قحافةَ والدِ أبي بكرٍ الصديقِ – رضيَ اللهُ عنه –: لما دخلَ رسولُ اللهِ ﷺ مكةَ فاتحًا (في رمضانَ 8هـ/ ينايرَ 630م)، ودخلَ المسجدَ الحرامَ، أتى أبو بكرٍ بأبيهِ يقودُهُ إلى حضرةِ النبيِّ ﷺ، ليبايعَ ويسلمَ؛ فلما رآه رسولُ اللهِ ﷺ قالَ صاحبُ الخلقِ العظيمِ: “هلا تركتَ الشيخَ في بيتِه حتى أكونَ أنا آتيه فيه؟!” قالَ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه: يا رسولَ اللهِ، هو أحقُّ أن يمشى إليكَ من أن تمشى أنتَ إليه!! فأجلسَهُ سيدُنا محمدٌ ﷺ بينَ يديهِ، وأكرمَهُ، ثم مسحَ على صدرِه، ثم قالَ: “أسلمْ” فأسلمَ. ودخلَ بهِ أبو بكرٍ وكانَ رأسُهُ كالثغامةِ بياضًا من شدةِ الشيبِ. فقالَ رسولُ اللهِ ﷺ -في تلطفٍ جمٍّ وذوقٍ رفيعٍ-: “غيِّروا هذا من شعرِه!” (السيرةُ النبويةُ لابنِ كثيرٍ).

وعلى هذا الدربِ سارَ صحابتُهُ الكرامُ رضيَ اللهُ عنهم، فهذا أبو بكرٍ الصديقُ كانَ يتعاهدُ امرأةً عجوزًا عمياءَ في المدينةِ يقضي لها حاجاتِها سرًّا إبّانَ خلافتِه للمسلمينَ، وكانَ يحلبُ لأهلِ الحيِّ أغنامَهم، فلما استخلفَ وصارَ أميرَ المؤمنينَ قالتْ جاريةٌ منهم -يعني من نساءِ الحيِّ- بعدَ أن صارَ أبو بكرٍ خليفةً: الآن لا يحلبُها. تقولُ: لقد صارَ قائدَ الدولةِ وأميرَ المؤمنينَ يسيرُ الجيوشَ ويتحملُ المسؤولياتِ هل يلتفتُ إلى غنمِنا ويحلبُها؟ الآنَ لا يحلبُها، فسمعَ بذلكَ أبو بكرٍ رضيَ اللهُ عنه فقالَ: بلى، وإني لأرجو ألَّا يغيرَني ما دخلتُ فيهِ عن شيءٍ كنتُ أفعلهُ. (جامعُ العلومِ والحكمِ لابنِ رجبٍ).

وكانَ عمرُ يتعاهدُ الأراملَ والمسنينَ من العجائزِ؛ يستقي لهنَّ الماءَ بالليلِ، ورآهُ طلحةُ بالليلِ يدخلُ بيتَ امرأةٍ عجوزٍ، فدخلَ إليها طلحةُ نهارًا، فإذا هي عجوزٌ عمياءُ مقعدةٌ، فسألَها: ما يصنعُ هذا الرجلُ عندَكِ؟ قالتْ: هذا مذْ كذا وكذا يتعاهدُني يأتيني بما يصلحُني، ويخرجُ عني الأذى، فقالَ طلحةُ: ثكلتْكَ أمُّكَ طلحةُ، عثراتُ عمرَ تتبعُ؟! (أبو نعيمٍ في الحليةِ).

وقد سُئِلَ العباسُ عمُّ النبيِّ ﷺ أنتَ أكبرُ أم رسولُ اللهِ؟ فقالَ احترامًا وتوقيرًا: هو أكبرُ منِّي وأنَا ولدتُ قبلَهُ!

وهذه امرأةٌ عجوزُ تُدعى خولةَ بنتَ ثعلبةَ؛ ذاتَ يومٍ مرَّتْ بعمرَ بنِ الخطابِ رضيَ اللهُ عنهُ أيّامَ خلافتِهِ، وكانَ خارجًا من المنزلِ، فاستوقفتْهُ طويلًا ووعظتْهُ قائلةً لهُ: يا عمرُ، كنتَ تُدعى عميرًا، ثم قيلَ لكَ عمرُ، ثم قيلَ لكَ يا أميرَ المؤمنينَ، فاتَّقِ اللهَ يا عمرُ… فإنَّ مَن أيقنَ بالموتِ خافَ الفوتَ، ومن أيقنَ بالحسابِ خافَ العذابَ… وعمرُ رضيَ اللهُ عنهُ واقفٌ يسمعُ كلامَها بخشوعٍ، فقيلَ لهُ: يا أميرَ المؤمنينَ، أتقفُ لهذه العجوزِ هذا الوقوفَ كلَّهُ؟!! فقالَ عمرُ: واللهِ لو حبستْني من أولِ النهارِ إلى آخرِهِ لا زلتُ “إلَّا للصلاةِ المكتوبةِ”، ثم سألَهم: أتدرونَ من هذه العجوزُ؟ قالوا: لا. قالَ رضيَ اللهُ عنهُ: هي التي قد سمعَ اللهُ قولَها من فوقِ سبعِ سماواتٍ.. أفيسمعُ ربُّ العالمينَ قولَها ولا يسمعُهُ عمرُ؟!! “رضيَ اللهُ عنهُ وأرضاهُ”. (السيوطيُّ في الدرِّ المنثورِ).

وهكذا خرَّجتْ مدرسةُ النبيِّ مُحمدٍ – ﷺ – جيلًا نشأَ على الحبِّ والاحترامِ والتقديرِ وإكرام كبار السن.

ثالثًا: ثَمَراتٌ وفَوَائِدُ تَوقيرِ كبارِ السّنِّ وإكرامِهِمْ.

لتوقيرِ كبارِ السنِّ وإكرامِهم فوائدُ وثمراتٌ عديدةٌ في الدنيا والآخرةِ منها:

الجزاءُ من جنسِ العملِ: فكما تقدِّرُ كبارَ السنِّ وتوقِّرُهم وتجلُّهم، فإنَّ اللهَ سيقيِّضُ لكَ من يردُّ لكَ هذا الجميلَ في شيخوختِكَ. فعَنْ أنسِ بنِ مالكٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ:” ما أكرمَ شابٌّ شيخًا لسنِّهِ إلَّا قيَّضَ اللهُ لهُ من يُكرمُهُ عندَ سنِّهِ “. (الطبرانيُّ والبيهقيُّ والترمذيُّ).

وعَنْ أبي قِلابَةَ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: البرُّ لا يبلى، والإثمُ لا يُنسى، والديَّانُ لا يموتُ، فكنْ كما شئتَ كما تَدينُ تُدانُ. (مصنفُ عبدِ الرزاقِ).

ومنها حصولُ البركةِ: فكلما أكرمتَ كبارَ السنِّ وقمتَ بتوقيرِهم كلما ازددتَ بركةً وتوفيقًا وسدادًا. فعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما، أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ: {البركةُ مع أكابرِكم} [ابنُ حبَّانَ والحاكمُ وصحَّحهُ ووافقَهُ الذهبيُّ].

ومنها: حصولُ الأجرِ والثوابِ من اللهِ: فعَنْ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنهُ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «كلُّ سُلامى من الناسِ عليهِ صدقةٌ، كلَّ يومٍ تطلعُ فيهِ الشمسُ، يعدلُ بينَ الاثنينِ صدقةٌ، ويعينُ الرجلَ على دابَّتِهِ فيحملُ عليها، أو يرفعُ عليها متاعَهُ صدقةٌ، والكلمةُ الطيبةُ صدقةٌ، وكلُّ خطوةٍ يخطوها إلى الصلاةِ صدقةٌ، ويميطُ الأذى عن الطريقِ صدقةٌ». (متفقٌ عليهِ). قالَ ابنُ بطالٍ: وإذا أُجرَ على فعلِ ذلكَ بدابةِ غيرِه، فإذا حملَ غيرَهُ على دابةِ نفسِه احتسابًا كانَ أعظمَ أجرًا”. (فتحُ الباري لابنِ حجرٍ).

ومنها: مرافقةُ الرسولِ ﷺ في الجنةِ: فعنَ أنسٍ بنِ مالكٍ رضيَ اللهُ عنهُ، قالَ: خدمتُ النبيَّ ﷺ ثماني حججٍ، فقالَ لي: يا أنسُ، «وقِّرِ الكبيرَ، وارحمِ الصغيرَ تُرافقْني يومَ القيامةِ». [البيهقيُّ في الشُّعبِ].

ومنها: إنزالُ الناسِ منازلَهم: فقد رُويَ أنَّ عائشةَ مرَّ بها سائلٌ فأعطتْهُ كسرةً، ومرَّ بها رجلٌ عليهِ ثيابٌ وهيئةٌ، فأقعدتْهُ، فأكلَ، فقيلَ لها في ذلكَ، فقالتْ: قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: “أنزلوا الناسَ منازلَهم”. [أبو داودَ].

ومنها: برُّ الآباءِ والأقاربِ في قبورِهم: إنَّ من برِّ الإسلامِ ورفقِه بالمسنينَ أنْ حثَّ أتباعَهُ على الإحسانِ إلى أصدقاءِ الوالدينَ وبرِّهم وودِّهم والرفقِ بهم ولا سيما إذا كانوا في سنِّ الشيخوخةِ؛ فأنتَ حينما توقِّرُ الكبيرَ وتحترمُهُ وتجلُّهُ وتكرمُهُ، فهذا صلةٌ لأبيكَ وأمِّكَ وذوي رحمِكَ في قبورِهم، فعنْ عائشةَ، قالتْ: جاءتْ عجوزٌ إلى النبيِّ ﷺ وهو عندي، فقالَ لها رسولُ اللهِ ﷺ: «من أنتِ؟» قالتْ: أنا جثَّامةُ المزنيَّةُ، فقالَ: «بلْ أنتِ حسَّانةُ المزنيَّةُ، كيفَ أنتم؟ كيفَ حالُكم؟ كيفَ كنتم بعدَنا؟» قالتْ: بخيرٍ بأبي أنتَ وأمِّي يا رسولَ اللهِ، فلمَّا خرجتْ قلتُ: يا رسولَ اللهِ، تُقبلُ على هذه العجوزِ هذا الإقبالَ؟ فقالَ: «إنها كانتْ تأتينا زمنَ خديجةَ، وإنَّ حسنَ العهدِ من الإيمانِ». [الحاكمُ وصحَّحهُ ووافقَهُ الذهبيُّ].

وعنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ: أنَّ رجلًا من الأعرابِ لقيَهُ بطريقِ مكةَ فسلَّمَ عليهِ عبدُ اللهِ؛ وحملَهُ على حمارٍ كانَ يركبُهُ؛ وأعطاهُ عمامةً كانتْ على رأسِه؛ فقالَ ابنُ دينارٍ فقلنا لهُ: أصلحَكَ اللهُ إنَّهم الأعرابُ وإنهم يرضونَ باليسيرِ؛ فقالَ عبدُ اللهِ: إنَّ أبا هذا كانَ ودًّا لعمرَ بنِ الخطابِ؛ وإني سمعتُ رسولَ اللهِ ﷺ يقولُ : ” إنَّ أبرَّ البرِّ صلةُ الولدِ أهلَ ودِّ أبيهِ ” .(مسلمٌ).

وبلغَ الأمرُ ببعضِ السلفِ أنَّهُ كانَ يسافرُ ليصلَ صديقَ أبيهِ. فقد روى أحمدُ في مسندِه عن يوسفَ بنِ عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ قالَ: أتيتُ أبا الدرداءِ في مرضِه الذي قُبِضَ فيهِ؛ فقالَ لي: يا ابنَ أخي ما أعمدَكَ إلى هذا البلدِ أوْ ما جاءَ بكَ؟! قالَ قلتُ: لا إلَّا صلةُ ما كانَ بينكَ وبينَ والدي عبدِ اللهِ بنِ سلامٍ!!

ومنها: القضاءُ على عزلةِ المسنينَ: فحينَ يوقِّرُ أفرادُ المجتمعِ كبارَ السنِّ فإنهم يساعدونَ على دمجِ المسنِّ في المجتمعِ والقضاءِ على العزلةِ التي يشعرُ بها، وبالتالي التخفيفِ من التغيراتِ الاجتماعيةِ والنفسيةِ التي يمرُّ بها المسنُّ.

فعليكُم بالاحترامِ والتوقيرِ لكلِّ أفرادِ المجتمعِ، ولنكنْ قدوةً لغيرِنا في توقيرِ كبارِ السنِّ، ولذلك ضُرِبَ بالأحنفِ بنِ قيسٍ المَثلُ في الحلمِ والاحترامِ، فقيلَ لهُ: كيفَ وصلتَ إلى هذهِ المنزلةِ؟ فقالَ: ما آذانيِ أحدٌ إلَّا أخذتُ في أمرِهِ بإحدى ثلاثٍ: إنْ كانَ فوقيِ عرفتُ لهُ فضلَهُ، وإنْ كانَ مثلِي تفضَّلتُ عليهِ، وإنْ كانَ دونيِ أكرمتُ نفسيِ عنهُ.

 وهكذا بالاحترامِ المتبادلِ والتقديرِ وتكريم كبار السن، يسودُ الودُ والحبُّ والصفاءُ بين أفرادِ المجتمعِ .

نسألُ اللهَ كما حسَّنَ خلقنَا أنْ يحسنَ أخلاقنَا، وأنْ يجعلَنَا مِن أهلِ التقديرِ والاحترامِ، وَأَنْ يَحْفَظَ مِصْرَنَا وَبِلَادَنَا مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ وَسُوءٍ.

اقرأ أيضا:

خطبة الجمعة القادمة لوزارة الأوقاف 28 نوفمبر 2025م ـ 7 جمادى الآخرة 1447هـ

وزير الأوقاف يُدلي بصوته في انتخابات مجلس النواب

مفتي الجمهورية يُدلي بصوته في انتخابات مجلس النواب لعام 2025

فضل شهر رجب في الإسلام

حكم بيع السمك في الماء

دار الإفتاء توضح حكم التجارة في الآثار

خطبة الجمعة للدكتور خالد بدير غدا 21 نوفمبر 2025م ـ 30 جمادى الأولى 1447هـ

خطبة الجمعة لوزارة الأوقاف غدا 21 نوفمبر 2025م ـ 30 جمادى الأولى 1447هـ

أمين الفتوى: تحديات كبيرة لحماية المجتمع في الفضاء الرقمي

الإفتاء المصرية أقدم دار إفتاء منظمة في العالم الإسلامي

د. نظير عياد: وحدات دار الإفتاء تعزز قيم التعايش والتسامح وتنشر فقه الوسطية في العالم

علماء دار الإفتاء: الرشوة تقوض أسس العدالة والمساواة

الرابط المختصر

search